
في عصر لم يعد فيه الانقسام جغرافيًا أو سياسيًا فحسب، برز مصطلح “التجزئة الرقمية” ليصف واقعًا متسارعًا من الانقسام التقني، حيث تتجه الدول والأنظمة نحو بناء حدود رقمية فاصلة، تعيد تشكيل شبكة الإنترنت كما نعرفها، وتحوّلها إلى سلسلة من الفضاءات المنفصلة، لكل منها قوانينه وبروتوكولاته وسلوك مستخدميه.
إنها ليست مجرد سياسة تقنية، بل منعطف حضاري يُنذر بتداعيات تتجاوز العالم الرقمي إلى عمق العلاقات الدولية والهوية الثقافية.
من شبكة عالمية إلى شبكات سيادية
عندما ظهرت شبكة الإنترنت في بداياتها، كانت الفكرة الجوهرية تقوم على عالمية الوصول، والمجانية المعرفية، وتكافؤ الفرص في استخدام التكنولوجيا. غير أن هذا الحلم سرعان ما بدأ يتآكل مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وارتفاع وتيرة الحروب السيبرانية، مما دفع بعض الدول إلى تبني استراتيجيات تقوم على “السيادة الرقمية”. هذه السيادة لا تعني فقط امتلاك البنية التحتية أو حماية البيانات الوطنية، بل تعني في جوهرها التحكم الكامل بالمحتوى، وتوجيه حركة المعلومات داخل الحدود الوطنية، بل أحيانًا بناء شبكات مغلقة لا تتصل بالعالم إلا بشروط مشددة.
التجزئة الرقمية: بين الحماية والتحكم
يبرر المدافعون عن هذا الاتجاه أن التجزئة الرقمية ضرورة أمنية لحماية السيادة، وتفادي الاختراقات والهيمنة التقنية الأجنبية. ولكن المنتقدين يرون فيها شكلًا جديدًا من الرقابة والسيطرة على حرية التعبير، وتحجيما للتفاعل الإنساني العابر للحدود. إنها معركة خفية بين من يسعى لتأمين فضائه الرقمي، ومن يرفض حصر المعرفة أو تدفقها ضمن أسوار افتراضية. والأسوأ من ذلك أن هذه السياسات تؤدي أحيانًا إلى استبعاد شركات أو خدمات بأكملها من بلدان معينة، مما يحد من فرص الابتكار ويقوّض التعاون العلمي والتقني العالمي.
مفارقة الذكاء الاصطناعي في عالم مجزأ
تأتي التقنيات الناشئة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، في قلب هذا الجدل. فالخوارزميات لا تتعرف على الجنسيات أو الحدود، بل تقوم على التدفق الحر للبيانات والتعلّم من أنماط السلوك على نطاق واسع. لكن في ظل التجزئة الرقمية، تصبح هذه النماذج أقل كفاءة أو أكثر تحيزًا، نظرًا لافتقارها إلى بيانات من بلدان أو ثقافات محجوبة عن العالم الرقمي العام. النتيجة؟ أنظمة ذكاء اصطناعي لا تفهم سوى عالمها الضيق، وتقترح حلولًا لا تصلح إلا لمنطقتها، أو تقصي فئات واسعة من الاستخدام. إنها مفارقة تضعف قدرات الذكاء الاصطناعي بينما يفترض به أن يربط العالم لا أن يقطّعه.
اقتصاد رقمي مهدد بالانقسام
لا تتوقف آثار التجزئة الرقمية عند السياسة أو التقنية، بل تمتد إلى الاقتصاد الرقمي العالمي. الشركات الناشئة، والمبدعون، ومطورو البرمجيات، يواجهون اليوم تحديات متزايدة في الوصول إلى الأسواق، أو التعاون مع نظرائهم في دول ذات أنظمة رقمية مختلفة.
فالتطبيقات التي تعتمد في منطقة ما، قد تمنع أو تخضع لشروط رقابية صارمة في منطقة أخرى. وهو ما يفرض على أصحاب المشاريع الاستثمار في نسخ متعددة ومتباينة من خدماتهم، مما يرفع التكلفة ويعقد مسار التطوير. كما أن بيئات الدفع الإلكتروني، والتجارة عبر الحدود، تواجه عراقيل متزايدة نتيجة القيود التقنية والمالية المرتبطة بالتجزئة.
المستخدم الفرد: الخاسر الأكبر
وسط هذا المشهد، يبرز المستخدم الفرد كمستفيد مهدد وخاسر محتمل في آنٍ واحد. فبينما يروج البعض لفكرة “الإنترنت الوطني” كوسيلة لحماية المستخدمين من المخاطر والمحتوى المضلل، تحرم شرائح واسعة من فرص التعلم والتواصل والانفتاح.
فالشباب الذين يرغبون في تطوير مهاراتهم، أو التفاعل مع ثقافات أخرى، يجدون أنفسهم محاصرين بمنصات محلية فقيرة المحتوى، أو ممنوعين من الوصول إلى أدوات أساسية للابتكار والتعلم. وهذا التقييد لا يضر بالحريات فقط، بل يؤثر على قدرات المجتمعات على مواكبة التطورات العالمية.
من التعاون إلى التصادم الرقمي
تشير بعض الدراسات إلى أن التجزئة الرقمية قد تؤدي على المدى البعيد إلى تصادم في المصالح الرقمية بين الدول، أشبه ما يكون بصراع نفوذ داخل الفضاء السيبراني. فكلما زادت الرقابة والانغلاق، زاد التوجس بين الدول، وازدادت صعوبة التعاون في الملفات الحساسة كالأمن السيبراني، والحوكمة الرقمية، ومعايير الذكاء الاصطناعي. وهذا قد يفضي إلى نشوء تحالفات رقمية متعارضة، وسباقات تسلّح تقني بين قوى كبرى، على حساب التكامل والمصلحة الإنسانية المشتركة.
هل من أمل في إنترنت عالمي متجدد؟
ورغم كل هذه التحديات، لا يزال الأمل قائمًا في إعادة التفكير بمنظومة الإنترنت بشكل يوازن بين الحاجة للسيادة الرقمية، والحق في الوصول الحر والعادل للمعلومة. فبعض المبادرات الدولية بدأت تبحث في معايير موحدة لحوكمة البيانات، وشفافية الخوارزميات، واحترام الخصوصية دون اللجوء إلى الانغلاق أو الانعزال. كما أن وعي المجتمعات بقيمة الإنترنت المفتوح، وضغط المنظمات المدنية، يمثلان قوة دافعة لإعادة الاعتبار إلى مبادئ الانفتاح والاتصال الشامل.
الحاجة إلى ميثاق رقمي عالمي
إن مواجهة التجزئة الرقمية لا تتطلب فقط تقنيات متقدمة، بل إرادة سياسية وأخلاقية عالمية، تقرّ بأن الفضاء الرقمي هو فضاء مشترك، وأن مستقبل البشرية الرقمي لا يمكن أن يدار بعقلية الحدود والحواجز. فالعالم الذي نحلم به، لا تحكمه الجدران، بل الجسور، ولاتقسمه المخاوف، بل تجمعه المعرفة. ولهذا، فإن إنشاء ميثاق رقمي عالمي عادل وشامل، لم يعد ترفًا بل ضرورة تاريخية ملحّة.