
في زمن تسير فيه الخوارزميات بخطى أسرع من البشر، لم تعد الهندسة حرفة تتطلب القلم والمسطرة فقط، بل أصبحت عملية فكرية وهندسية معقدة تدور داخل بُنى رقمية، قادرة على محاكاة العالم قبل أن يُبنى. الهندسة الرقمية ليست بديلاً للهندسة، بل هي ولادتها الثانية، أكثر دقة، وأوسع خيالًا، وأشد ارتباطًا بالحياة اليومية. إنها وعدُ التكنولوجيا بأن تُرى الأفكار لا تُتخيل فقط.
الهندسة كفن رقمي
في قلب الهندسة الرقمية يوجد سحر لم يكن متاحًا قبل عقدين: أن تُصمَّم ناطحة سحاب بكل تفاصيلها من خلال شاشة واحدة، أن تُختبر قوتها أمام الزلازل والعواصف دون أن يُسكب حجر واحد، أن يتم تلوين واجهتها وتحريك نوافذها في ثوانٍ. لم يعد التصميم معركةً بين المهندس والزمان، بل شراكة بينه وبين آلة ذكية تسأله: “كيف تريد أن أُظهر فكرتك؟”
إن مهندس اليوم يعمل داخل “نماذج رقمية” تُقرأ، تُعدَّل، وتُختبر آلاف المرات قبل أن تتحول إلى واقع. وحتى التفاصيل الدقيقة – كموقع المسامير، أو امتداد أنابيب الماء – باتت تُبرمج مسبقًا، كأن البناية تُبنى داخل عقل إلكتروني قبل أن تُبنى على الأرض.
حين تصير المدن “ذكية” بالهندسة
فلنتأمل مدينة مثل “نيوم” في المملكة العربية السعودية، حيث تتعانق الهندسة الرقمية مع الذكاء الاصطناعي والتصميم المستدام. الطرق تُرسم رقميًا بحيث تلتقي في لحظة غروب واحدة، والمباني تُبنى داخل محاكاة ثلاثية الأبعاد تُظهر كيفية تصرفها في ظروف طقس مختلفة، أما الهواء، فيُدار كأنه عنصر معماري.
وفي الصين، استُخدمت الهندسة الرقمية لتشييد جسر “لونغجيانغ”، أحد أطول الجسور المعلّقة في آسيا، حيث تمّت محاكاة آلاف السيناريوهات المحتملة قبل بدء الأشغال. الجسر صُمّم على الحاسوب كما يُصمّم الشعر على ورقة شاعر.
الآلة والمعمار
لكن في قلب هذه الطفرة، يتسلل سؤال: ما مصير الإنسان في حضرة آلة تفكر هندسيًا؟ هل تتحول الهندسة إلى سلسلة من التعليمات الجافة؟ أم أن المهندس سيبقى شاعر الخرسانة وحده، يكتب القصيدة وتُكملها الآلة؟
البعض يرى في الهندسة الرقمية خطرًا على اللمسة الإنسانية، ويخشون أن تتحول البنايات إلى منتجات مكررة بلا روح. لكن آخرين يرون فيها فرصة لتكثيف الخيال البشري، وجعل المستحيل ممكنًا. فالآلة لا تبتكر، بل تُحقق ما يحلم به الإنسان، وتسرّع نبض خياله.
كواليس تكوين المهندس الرقمي
داخل جامعاتنا اليوم، لم يعد الطالب الهندسي يتعلّم الرسم الهندسي فحسب، بل يتقن “التصميم بمساعدة الحاسوب”، ويدخل إلى “مختبر الواقع الافتراضي”، ويتعامل مع برمجيات تحليل الزلازل وتدفق الرياح. في جامعة وهران، مثلاً، ينظم الطلبة مشروعات نهائية تُعرض في نماذج تفاعلية، يُمكن الدخول إليها رقميًا كما لو كانت مباني حقيقية.
التعليم الهندسي صار أكثر ارتباطًا بالسينما، بالألعاب الإلكترونية، وبالفن التفاعلي. الطالب لم يعد يرسم جدارًا، بل يُنشئ مشهدًا حركيًا يتفاعل مع الضوء، الصوت، وحتى حرارة أجسام البشر.
الهندسة الرقمية في الجزائر
رغم أن الهندسة الرقمية تتقدم عالميًا بسرعة، إلا أن الجزائر لا تزال تخطو خطوات أولى، ولكنها جادة. شركات ناشئة جزائرية بدأت تستخدم نمذجة معلومات البناء في تصميم مشاريع سكنية، ومهندسون شباب يبرمجون مكتبات رقمية تحتوي على تفاصيل البناء الجزائري التقليدي والمعاصر.
لكن التحدي الأكبر لا يزال في تحديث البرامج التعليمية، وتوفير الأدوات الرقمية داخل المؤسسات الهندسية، وربطها بشبكة واسعة من البيانات. الهندسة الرقمية لا تزدهر في بيئة منعزلة، بل تحتاج إلى منظومة كاملة من التكوين، السياسات، والدعم التكنولوجي.
هل نحن أمام هندسة جديدة أم ثقافة جديدة؟
الهندسة الرقمية ليست مجرد طريقة عمل، بل ثقافة جديدة في التفكير، في الحلم، وفي صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان. إنها ليست هندسة رقمية فقط، بل “رؤية رقمية للهندسة”، تُعيد تشكيل المدن، وتفتح بابًا لإبداع لا محدود.
المهندس الرقمي ليس من يتقن البرامج، بل من يفكر بطريقة رقمية، ويؤمن بأن كل فكرة يمكن أن تتحقق، بشرط أن يُرسم لها نموذج، وتُمنح شاشة، ويُكتب لها كود. فهل نحن جاهزون لتشييد مدننا القادمة بالفكر قبل الطوب؟