تكنولوجيا

التحول من الفصول التقليدية إلى الإلكترونية

ثورة تربوية تطرق الأبواب

لم يعد التعليم اليوم كما كان عليه قبل عقد من الزمن. فالفصول التي كانت تعج بأصوات المعلمين وهدير الطباشير، بدأت تخلي مكانها لشاشات مضيئة، ومنصات تفاعلية، وتطبيقات ذكية ترافق المتعلم في كل وقت ومكان.


لقد دخل التعليم عصر الرقمنة من أوسع أبوابه، وفرضت التكنولوجيا حضورها القوي في القاعات الدراسية، ما دفع بالكثير من المؤسسات التربوية إلى إعادة النظر في أساليبها ووسائلها. لكن هذا التحول، رغم ما يحمله من وعود، يثير تساؤلات كثيرة حول فعاليته، عدالته، وقدرته على الحفاظ على جوهر العملية التعليمية.

 

مفهوم جديد لتجربة التعليم

يشير مصطلح “الفصل الإلكتروني” إلى نمط تعليمي يستخدم الوسائط الرقمية كوسيط أساسي للتفاعل بين المعلم والمتعلم. وفي هذا النمط، يتم تقديم الدروس عبر منصات تعليمية، ويمكن أن تشمل تسجيلات فيديو، محاضرات مباشرة، تمارين تفاعلية، ومواد رقمية قابلة للتنزيل. لا يقتصر الفصل الإلكتروني على الغرف الافتراضية التي تحاكي الصف الواقعي، بل يتعدى ذلك إلى إنشاء بيئة تعلم مرنة تُعطى فيها الأولوية للفردية، والوتيرة الذاتية في التعلم، والقدرة على الرجوع إلى المحتوى مرارًا وتكرارًا.

 

واقع التحول في الجزائر والعالم

شهد العالم بأسره تحولًا تدريجيًا نحو التعليم الإلكتروني، تعزز بشكل كبير بفعل جائحة كورونا التي أرغمت المؤسسات التعليمية على إغلاق أبوابها. في الجزائر، سارعت وزارة التربية الوطنية ومؤسسات التعليم العالي إلى اعتماد منصات تعليمية مثل “موودل” و”كلاسيرا” و”النفاذ الوطني الموحد” لتقديم الدروس والمحاضرات عن بُعد. ورغم أن هذه الخطوة واجهت صعوبات في البداية بسبب ضعف البنية التحتية التقنية في بعض المناطق، إلا أنها أسهمت في بناء وعي جماعي بأهمية الرقمنة في التعليم.

في تجربة لافتة، تبنت جامعة التكوين المتواصل نظامًا تعليميًا هجينا يجمع بين التعليم الحضوري والإلكتروني، حيث يُطلب من الطلبة متابعة المحاضرات النظرية عبر الإنترنت، بينما تخصص الحصص التطبيقية للنقاش المباشر في القاعات.

وفي قطاع التعليم الثانوي، قامت بعض المدارس الخاصة في المدن الكبرى مثل الجزائر العاصمة ووهران بتوفير تطبيقات هاتفية تتيح للأولياء متابعة تقدم أبنائهم وتحميل الدروس المصورة.

 

بين التمكين والتخصيص

من أبرز مزايا الفصول الإلكترونية أنها توفر فرصة للتعلم المستمر خارج القيود الزمنية والمكانية. إذ يمكن للتلميذ أو الطالب أن يعيد مشاهدة الدرس متى شاء، وأن يتفاعل مع المحتوى وفقًا لسرعته الخاصة في الفهم والاستيعاب. كما أن هذه الفصول تتيح للمعلمين استخدام وسائط متعددة – من صور، ورسوم توضيحية، إلى محاكاة رقمية – مما يعزز الفهم ويحفز الانتباه.

علاوة على ذلك، تتيح الفصول الإلكترونية أدوات لتتبع الأداء الفردي وتحليل نقاط القوة والضعف، ما يساعد على تخصيص الدعم المناسب لكل متعلم. كما يمكن للطلاب طرح الأسئلة عبر المنتديات أو المحادثات المباشرة دون الشعور بالحرج، وهو ما يعزز من مشاركتهم ويكسر الحواجز النفسية التقليدية.

 

فجوة رقمية وأسئلة تربوية

رغم ما سبق، لا يخلو التعليم الإلكتروني من التحديات. فالفجوة الرقمية بين المناطق الحضرية والريفية لا تزال حاضرة بقوة، إذ تفتقر كثير من العائلات في المناطق النائية إلى أجهزة كمبيوتر أو اتصال إنترنت مستقر. كما أن بعض المعلمين يفتقرون إلى التكوين الكافي لاستخدام الوسائل الرقمية بفعالية، ما يحد من قدرتهم على تكييف محتوياتهم مع البيئة الجديدة.

من جانب آخر، يطرح هذا النمط أسئلة تربوية عميقة: هل يغني التعليم الإلكتروني عن التفاعل الوجاهي؟ كيف يمكن ضمان الانضباط والتركيز في غياب رقابة مباشرة؟ وهل يمكن أن تحل الآلة محل العلاقة الإنسانية بين المعلم والمتعلم؟

 

الحل الوسط الممكن؟

بناءً على تجارب متعددة حول العالم، بدأ يتشكل توجه جديد نحو ما يسمى “المدرسة الهجينة”، التي تمزج بين الحضور الواقعي والافتراضي. في هذا النموذج، تُستثمر الفصول الإلكترونية لتقديم المحتوى الأساسي، بينما تُخصص اللقاءات الحضورية للأنشطة التطبيقية، والنقاشات الجماعية، والتقييمات.

وقد أظهرت دراسات ميدانية أن هذا النموذج يحقق نتائج جيدة من حيث رضا المتعلمين وتحسن أدائهم، شريطة أن يُطبق ضمن بيئة منظمة، وأن يُرفق بتكوين مستمر للمعلمين، وتوفير بنية تحتية تكنولوجية ملائمة. وهذا ما يمكن أن يشكل حلاً واقعياً لدول مثل الجزائر، حيث لا تزال الإمكانات محدودة، ولكن الإرادة متوفرة.

 

 نحو مستقبل أكثر شمولا ومرونة

الانتقال من الفصول التقليدية إلى الإلكترونية ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو تحوّل ثقافي وتربوي عميق يتطلب إعادة تصور لطرق التعليم والتعلم. وبينما يفتح هذا التحول آفاقًا جديدة أمام المتعلمين في كل مكان، فإنه يحتم على الحكومات، والمؤسسات، والمعلمين، وأولياء الأمور العمل معًا لضمان أن يكون هذا الانتقال عادلاً، فعالًا وإنسانيًا.

يبقى التحدي الأكبر هو أن نحافظ على جوهر التربية، ونضمن ألا تتحول التكنولوجيا إلى حاجز عازل بين المعلم والمتعلم، بل إلى جسر يربطهما في رحلة المعرفة. فهل نحن مستعدون حقًا لهذه الثورة التربوية؟ وهل نمتلك ما يكفي من الإرادة والتخطيط لتجاوز العقبات وبناء تعليم أكثر شمولًا ومرونة؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى