
في عصر تتحكم فيه التكنولوجيا في كل تفاصيل حياتنا، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي أكثر من مجرد فضاء افتراضي للتفاعل، بل تحولت إلى ساحة لإعادة تشكيل المفاهيم والقيم الاجتماعية.
وبينما يستغل البعض هذه المساحات لإثراء المحتوى الثقافي والتوعوي، هناك من يوظفها لنشر الانحراف والتجاوزات الأخلاقية بحثًا عن الشهرة والربح السريع. هذا الواقع دفع السلطات الأمنية الجزائرية إلى شن حملة مكثفة لمواجهة الظواهر الرقمية التي تهدد أخلاق المجتمع، من خلال ملاحقة عدد من المؤثرين الذين ينشرون محتوى فاضحا أو يشجعون على سلوكيات غير أخلاقية.
صناعة المحتوى دون قيود صارمة
مع تطور الإنترنت، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي طفرة غير مسبوقة في حرية التعبير، مما سمح للأفراد بصناعة المحتوى دون قيود صارمة، كما هو الحال في وسائل الإعلام التقليدية. إلا أن هذه الحرية سرعان ما تحولت إلى فوضى رقمية، حيث بدأ بعض “المؤثرين” يستغلون المنصات لجذب الانتباه بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك عبر نشر محتوى يخدش الحياء العام أو يتعارض مع القيم الأخلاقية.
في الجزائر، كما في العديد من الدول الأخرى، تصاعدت المخاوف من التأثير السلبي لهذا النوع من المحتوى، خاصة أنه يصل بسهولة إلى فئة الشباب والمراهقين، الذين باتوا عرضة لمفاهيم غريبة عن ثقافتهم. ففي الآونة الأخيرة، انتشرت عبر الإنترنت فيديوهات صادمة تتضمن تحريضا على الطلاق، دعوات للتخلي عن العادات الدينية، وترويجا لأنماط حياة تتنافى مع الهوية المجتمعية. كما شهدت بعض المنصات حالات من الابتذال الصريح، وصلت إلى حد الترويج للممارسات غير الأخلاقية بشكل علني.
توقيف المتورطين في نشر محتوى مخالف للآداب العامة
أمام هذا الواقع، تحركت الأجهزة الأمنية في عدة ولايات جزائرية، حيث تم توقيف عدد من الأشخاص الذين تورطوا في نشر محتوى مخالف للآداب العامة. في العاصمة، أُلقي القبض على مؤثر معروف بتقديم فيديوهات تتضمن ألفاظًا نابية وسلوكيات منحرفة. أما في وهران، فقد تم توقيف شابة كانت تروج لممارسات غير أخلاقية عبر بث مباشر. وفي ورقلة، نجحت فرقة مكافحة الجرائم السيبرانية في الإطاحة بشخص كان يدير صفحات تنشر مواد غير لائقة، بعد تتبع نشاطه الرقمي والتأكد من تورطه في التحريض على الفسق.
هذه الخطوات الأمنية لاقت استحسانا كبيرا من طرف المواطنين، الذين رأوا فيها ضرورة لحماية المجتمع من الانحرافات الرقمية المتزايدة. لكن في المقابل، أثارت الحملة تساؤلات حول مدى تأثيرها على حرية التعبير، حيث اعتبر البعض أن الرقابة المشددة قد تؤدي إلى تقييد الإبداع الرقمي، خاصة إذا لم تكن هناك معايير واضحة لما يعتبر “غير أخلاقي”.
انجذاب بعض المستخدمين إلى الفضائح
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يحقق المحتوى الهابط هذا الانتشار الكبير؟ يعود السبب إلى عدة عوامل، أبرزها خوارزميات مواقع التواصل التي تروج للمحتوى الذي يحقق تفاعلا عاليا، بغض النظر عن جودته أو قيمته الأخلاقيةK فكلما كان الفيديو صادمًا أو مثيرا للجدل، زادت نسبة مشاهدته، وبالتالي ارتفعت أرباح صانعه.
كما أن هناك جانبا نفسيا، حيث ينجذب بعض المستخدمين إلى الفضائح والقضايا المثيرة للجدل، مما يجعلهم يساهمون دون وعي في انتشار هذا النوع من المحتوى عبر التعليقات وإعادة النشر. ومع غياب الرقابة الأسرية والتوجيه المجتمعي، يجد المراهقون أنفسهم معرضين لهذه التأثيرات السلبية، دون أن يدركوا خطورتها على سلوكهم وتفكيرهم.
العقوبات القانونية وحدها قد لا تكون كافية
من الناحية القانونية، ينص التشريع الجزائري على عقوبات صارمة لكل من ينشر محتوى يتنافى مع الآداب العامة، كما يتيح القانون للنيابة العامة التحرك تلقائيًا دون الحاجة إلى شكاوى رسمية، إذا رصدت أي محتوى يمس بالنظام الأخلاقي للمجتمع.
لكن العقوبات القانونية وحدها قد لا تكون كافية لمعالجة هذه الظاهرة، فالمشكلة الأساسية تكمن في ثقافة الاستهلاك الرقمي التي تفضل المحتوى السطحي على المواد ذات القيمة. ولهذا، يرى الخبراء أن الحل يجب أن يكون مزدوجا، يجمع بين الردع القانوني من جهة، وتعزيز الوعي المجتمعي من جهة أخرى.
معركة الأخلاق الرقمية مسؤولية جماعية
لا يمكن إنكار أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت جزء أساسيا من حياتنا اليومية، لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: كيف نجعل هذا الفضاء أكثر أخلاقية دون أن يتحول إلى ساحة للقمع والرقابة المفرطة؟
الخطوة الأولى تكمن في مسؤولية الأفراد، فالمتابع هو الذي يحدد ما يستمر في الانتشار وما يختفي. إذا توقف المستخدمون عن دعم المحتوى التافه، سيضطر صانعوه إلى تغيير توجهاتهم نحو ما هو أكثر فائدة.
أما على مستوى الدولة، فإلى جانب العقوبات القانونية، يجب أن يكون هناك استثمار في المحتوى الهادف، من خلال تشجيع المبدعين الحقيقيين ودعم البرامج الرقمية التي تقدم قيمة ثقافية وتعليمية.
وفي النهاية، تظل معركة الأخلاق الرقمية مسؤولية جماعية، تتطلب وعيا اجتماعيا عميقا، حتى لا يصبح الإنترنت ساحة لنشر الانحلال تحت شعار الحرية، ولا منصة لقمع الإبداع تحت ذريعة الحفاظ على القيم.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله