
حاورتها: ميمي قلان
صادف لنا ونحن نزور دار الثقافة “زدور ابراهيم”، أن نلتقي امرأة منهمكة في ترتيب لوحاتها التشكيلية لتكون معروضة بأحد الأجنحة هناك، ولمعرفة المناسبة والهدف من ذلك.
اقتربنا منها فأغدقت علينا بهذه الاعترافات الوجدانية المهمة في الحياة اليومية، والحفاظ على تراثنا وحماية هويتنا، عبر هذا الحوار:
هل يمكننا التعرف على شخصكم، وسبب وجودكم هنا في هذا الصباح الباكر؟
طبعا، أهلا بكم، أتشرف بالحديث معكم، معكم السيدة “مريم بن خدة”، أستاذة الهندسة المعمارية بجامعة “محمد بوضياف للعلوم والتكنولوجيا” بوهران، وفنانة تشكيلية. وجودي بدار الثقافة هو للمشاركة في إحياء احتفالات السنة الأمازيغية الجديدة المصادفة لـ12 جانفي الجاري، عبر عرض لوحاتي التشكيلية التي تبرز الثقافة الأمازيغية بين لباس، حلي، عمران، طبخ… . وقد بدأت مبكرا في وضع لوحاتي لشغفي الكبير بكل ما له علاقة بالتراث وما يرمز لهويتنا.
هل للهندسة المعمارية علاقة باهتمامك بالفن التشكيلي والتراث؟
أكيد، الهندسة المعمارية لها علاقة وطيدة بالفن المعماري، وهو ما سهل عليا ولوج عالم الفن التشكيلي، إلى جانب عشقي للألوان الذي جعلني أدرس هذا المجال لأكون خصوصيتي في مجال الألوان والتعامل معها، وكيفية إدراجها في مجالي الأكاديمي واستغلالها في رسم لوحاتي التشكيلية.
أنا أعشق كل ما له علاقة بالتراث، سواء كان ماديا أو لاماديا، وكل ما هو تقليدي وله علاقة بتاريخنا وعادات أجدادنا وجداتنا، ويعتبر من مكونات هويتنا الجزائرية التي يجب الحفاظ عليها.
كيف تتعاملون كأساتذة مع الطلبة في مجال الهندسة المعمارية والتراث العمراني؟
نحن نوجه الطلبة ونعلمهم كيفية الحفاظ على التراث العمراني والآثار بطريقة علمية أكاديمية، كما نقوم عن طريق هذه المادة العلمية بتحسيس وتوعية الأجيال بالحفاظ على تراثنا العمراني، وقِسْ على ذلك باقي أنواع التراث والآثار، حفاظا على هويتنا وكينونتنا وخصوصيتنا كأمة.

ما غايتك من الاهتمام بالتراث الجزائري؟
بفني التشكيلي ومهنتي الأكاديمية أسعى للحفاظ على كنوزنا التاريخية والتراثية، وترك إرث ثقافي تاريخي تراثي للأجيال القادمة الذي تزخر به الجزائر، ويجب أن لا يتم التفريط فيه، بل يجب الحفاظ عليه وجعله قيمة مضافة لموطننا الهوياتي.
وَلَعي بالتراث والآثار العمرانية والتاريخية جعلتني أفضل قضاء العطل في الجزائر بدل التوجه نحو الخارج، لأنني سبق وزرت عديد المدن الأجنبية، لكنني اكتشفت أن الجزائر تتميز بخصوصية فريدة في تراثها ومناطقها الجغرافية المتعددة الخصوصيات والتميز عن بعضها، وكلما اكتشفت عنصرا جديدا فيها، كلما ازداد شغفي للبحث والرغبة في اكتشاف الجديد، وهو نشاط أقوم به رفقة طلبتي غالبا، باصطحابهم إلى مختلف المناطق، لاسيما التي تضم تراثا وآثارا عمرانية، على غرار الجنوب ومغامراتنا مع المرشد السياحي “عبد الرحمن” الذي أصبح صديقا لنا، وقد قمت برسمه رفقة آلته الموسيقية وهو يداعبها في جلسة حميمية بصحرائنا الشاسعة. كما أنني لا أركز على العمران القديم فحسب، بل أهتم بكل ما يرمز لهويتنا وتقاليدنا، على غرار الإكسسوارات التقليدية والحلي.
كأستاذة في الهندسة المعمارية وكذلك الطلبة، هل يمكنكم القيام بترميم التراث العمراني؟
ولأن تخصصنا أكاديميا لا يمكننا القيام بالترميم، نحن نحضر الطلبة ونساعدهم على القيام ببحوثهم حول العمران القديم، ونشجعهم على تقديم عروض وبحوث تخص هذا المجال، لكن للقيام بالترميم من تخصص “الحرفيين” الذين يتقنون كيفية البناء وما يتطلبه ذلك، فالترميم ليس بالأمر الهين أو السهل. فالمهندس المعماري يقوم بإعادة تصميم الهيكل، وجعله يشبه تماما بناءه في الأول، بناء على معطيات وقياسات علمية دقيقة، كما أنه يستطيع أن يتابع مرحلة الترميم للتوجيه.
لكن من خلال سفرياتنا إلى المناطق القديمة، نقوم بالتحسيس والتوعية خاصة للحفاظ على هذا الكنز الكبير الذي تزخر به بلادنا، على غرار “تيميمون” التي تضم مركزا وطنيا، أين يقوم الطلبة بتشكيل الآجر من الطين وما يحتاجه البناء بالطين عموما، على سبيل التجربة والقيام بالبحوث، وهناك يقومون بالتربص ويحصلون على الشهادات.
بين الماضي والحاضر، التكنولوجيا اقتحمت كل المجالات، هل تساعد في الحفاظ على التراث العمراني؟ وكيف يتم ذلك؟
التكنولوجيا لا يمكن مقاومتها، هي موجودة اليوم على غرار مواد البناء الحديثة، كالإسمنت، الحديد… وهناك مناطق يمكننا البناء فيها بالطين، لكن هناك مباني عالية وضخمة لا يمكننا الاعتماد على الطين، لأنها سهلة الهدم والسقوط، فهي تحتاج إلى الإسمنت المسلح لتميزه بالمقاومة والتصلب. إضافة إلى تميز كل منطقة بنوعية العمران بها، فالجزائر تتوفر على الحديد والإسمنت وكذا الطين، هناك مناطق من العالم تعتمد على الخشب في بناء عمرانها… علينا الاعتماد على مواد البناء الحديثة والمقاومة مع الحفاظ على هويتنا العمرانية الخاصة بنا، مع احترام البيئة والظروف المناخية.
للتكنولوجيا دور مهم في إحياء عمراننا القديم والذي بقيت منه الأطلال فقط، وذلك عن طريق إخضاع الهيكل العمراني إلى تطبيقات تكنولوجية خاصة، على غرار الأبعاد الثلاثية… التي تسمح بإعادة تشكيل العمران الذي مرت عليه قرون وليس سنوات فقط، وجعله يطابق بناءها في وقتها الماضي، وإخضاعها للدراسة العلمية التي تسهل عملية ترميم هذه الهياكل العمرانية وإعادة تشكيلها من جديد، وقد نجح ذلك سابقا، مثلما حدث بـ “قلعة المشور” بتلمسان، وبذلك يتم إحياء ذاكرة تاريخية أزالتها الظروف الطبيعية والإهمال الإنساني.
وقد أثبت العلم أن التكنولوجيا لها دور مهم في البحث التاريخي فيما يخص التراث العمراني، فقد كانوا سابقا يقولون أن الحضارات السابقة التي سبقتنا لم تكن تعرف الألوان، بيد أن الأبحاث ودقة المخابر في مجال تحليل المادة، مثل الميكروسكوب الإلكتروني كشفت وجود ذرات أو بقايا دقيقة جدا كالأيونات تثبت وجود ألوان مختلفة، من خلالها عرفوا أن في تلك المواقع كانت توجد ألوان وتمكنوا من معرفة مواضعها أيضا، وقد كانت الكثير من الألوان، وهو ما جعلني أحب الألوان لأنها أسلوب للتعبير منذ القدم. ولأن الألوان تزول مع مرور الوقت، فقد ظننا إلى وقت قريب أن الألوان حديثة الاكتشاف، لكن التكنولوجيا أثبتت لنا أنها كانت موجودة منذ القدم وقد استعملتها الحضارات السابقة بكثرة وكانت معبرة عنها.
كيف يمكننا الحفاظ على هويتنا؟
للحفاظ على هويتنا، علينا المحافظة على تقاليدنا وتراثنا بنوعيه المادي واللامادي، من خلال تشجيع وتحسيس الجيل الصاعد بضرورة العمل على الحفاظ على التراث والموروث العمراني والثقافي وهي عملية مستمرة، مثلا طلبتي بالكلية أتعامل معهم بكل شغف، أطلعهم على كل لوحة فنية أرسمها وأسألهم رأيهم، كما أستفسر عن آرائهم واقتراحاتهم، وأناقش معهم مختلف المواضيع المتعلقة بالعمران القديم، وكل ما هو تراث حتى يبقوا دائمين على ارتباط بموروثنا.
نفس العمل أقوم به مع أولادي، حتى أن ابنتي هي من طلبت مني رسمها في تلك اللوحة التي ترين، بعدما ارتدت لباسها القبائلي وتزينت بالإكسسوارات الخاصة بي، فخلال العطل والمناسبات أرافقهم لمختلف مناطق الوطن ليكتشفوا ويتعرفوا عن قرب على تقاليد وتراث كل منطقة من الجزائر، وهذا ما يجب أن يكون مع كل أفراد المجتمع، علينا اكتشاف جزائرنا والتعرف على خصوصياتها ثم التنقل إلى الخارج والاطلاع على ثقافات الغير. التراث هو عالم آخر، يجب علينا اقتحامه والتعرف على أسراره، ذات مرة صادفت إحدى الحصص، فاندهشت أمام الثراء الواسع في هذا العالم وقد كان وقتها عن “القوال، البراح، الشاعر، المغني،….”، التراث عالم شاسع لا يكتشف بسهولة.
هل عشقك للتراث يشمل إلمامك بالطبخ التقليدي؟
في الطبخ لست متخصصة، أحضر الأطباق التقليدية أحيانا، وما ورثته عن والدتي وفي المناسبات أحضر ما أستطيع القيام به من أطباق تقليدية، لكنني حريصة على تحضير المقروط، القريوش… أولا لأنها لذيذة ونكهتها خاصة إضافة إلى أنها عادة من عادات الجدات.
كلمة أخيرة؟
الجزائر ثرية وغنية، أفكر كل الوقت وأتساءل عن سبب إقدام شباب اليوم على الحرقة، في وقت يمكن له أن يقوم بنشاطات مختلفة هنا، أنا في مناوشات دائمة مع محيطي حول هذه الظاهرة التي تعرض حياتهم لخطر الموت، ناهيك عن “التمرميد” بأوربا إذا وصلوا سالمين، الجزائر تتسع للجميع، يكفي أن نتحرك أكثر وفي الاتجاه الصحيح لنجد ما نبحث عنه.
أشكركم على منحكم لي هذه الفرصة لتوجيه رسالتي إلى الجزائريين للحفاظ على تاريخنا وهويتنا وتراثنا، وأتمنى للجميع سنة أمازيغية جديدة مليئة بالحب والنجاحات.