
يستعد مخبر الفلسفة وتاريخها بجامعة “وهران 2″، لتنظيم ملتقى دوليا في 22 فيفري 2025، حول المفكر النابغة الفيلسوف ابن مدينة قمار بولاية الوادي، فيلسوف الثورة الجزائرية، الراحل الأستاذ “حمانة بوخاري”، مؤسس قسم الفلسفة بجامعة وهران، الذي وافته المنية يوم الأربعاء 5 ديسمبر 2018 عن عمر ناهز 81 سنة. في الوقت الذي وعدت وزيرة الثقافة السابقة “صورايا مولوجي”، بطبع أعمال الأستاذ “حمانة البخاري” في مجلدات لحفظها للأجيال حتى تغنم ما كان يستشرفه ويراه ويبقى جزء من كنز رجالات الفكر الجزائريين الذين كان لهم الأثر الطيب في مسيرتهم المجتمعية والمهنية في 4 مجلدات، حسب رئيس مخبر الفلسفة الأستاذ “عبد القادر بوعرفة”.
وحسب رئيس المخبر الأستاذ “عبد القادر بوعرفة”، فإن الراحل “حمانة البخاري” يحتاج فكره وما تركه من إرث فلسفي واستشرافي لقضايا الأمة، أن يخضع للدراسة النقدية والفحص والتمحيص حتى يتم إعادة بعث ما أنتج من جديد، وفسح المجال للاطلاع على أعماله وقراءة نصوصه ومقالاته التي تحققت من خلالها الكثير من نظراته الاستشرافية، على غرار مستقبل الجزائر والقضية الفلسطينية.
وخلال مشاركته في ندوة جمعت الأساتذة والصحفيين وطلبته الذين رافقوه في حياته بحضور ابنيه “خالد وعمر” وحفيديه، أشرف عليها الدكتور بقسم علوم الإعلام والاتصال بجامعة وهران “أحمد بن دريس” كاتب سيناريو الفيلم الوثائقي السينمائي، حول الأستاذ “بخاري حمانة” فيلسوف الثورة، ورعاية وزارة الثقافة، والذي يوجد في مرحلة المونتاج، استعداد لعرضه خلال الملتقى الدولي المذكور سابقا، أجمع الحضور على أن الأستاذ “حمانة بخاري” لازال بحاجة إلى تسليط الضوء على ما خلفه من فكر حيوي وأفكار تعايش يومياتنا كأمة وتاريخ، ليس لشخصه فقط بل لنعمل على مناقشتها واستغلال استشرافاته التي غالبا ما كانت متناسقة مع ما يحدث على أرض الواقع.
وفي هذا الصدد، ذكر الأستاذ “العربي مولود”، أن أجمل ذكرى عالقة بذهنه، هي تسجيله الخاص مع الأستاذ الراحل “حمانة”، لعفويته وتلقائيته ذات يوم مع السادسة مساء على حجرة خارج بيته في الهواء الطلق، مردفا أنه في أواخر حياته كان شغوفا ليعرّف بمساره ومنشوراته، فقد ظل 6 سنوات وهو يطالب بكتابه الذي ألفه، وكلما علم بوجود أحد من معارفه بفرنسا، إلا ودعاه إلى التنقل إلى “جيفران” للاستفسار عن مصير كتابه إذا نشر، وحتى مقالاته التي كانت تصدر بالمجلات والجرائد.
مضيفا أن مساهماته غزيرة جدا فقد كان طالبا وكتب عن منظمة “أواس”، كما أنه من أثار فكرة “كيف يفكر الآخر فينا نحن كجزائريين خلال الثورة”، وقد حصل على ليسانس بدرجة امتياز في مصر ومنحة جامعية من هناك، غير أن التزاماته الخاصة بالثورة التحريرية، لم تسمح له باستكمال الماجستير في حينها، ولكنه أتم دراسته فيما بعد.
القادة والسياسة… المسار الغامض في حياة المفكر
بتعمق الحضور في الحديث حول مسار الراحل، تبين أن الأستاذ “بخاري” يلفه الكثير من الغموض في مساره المهني، حتى أن طالبه وصديقه وزميله الأستاذ “عبد القادر بوعرفة”، أكد أن ما تركه “حمانة” من ثروة فكرية، تستحق جمعها في مجلدات وإنتاج أفلام وثائقية توثق خطواته ومساره الإعلامي، الثوري والأكاديمي ومغامراته السياسية التي تحفل بالكثير من الأسرار والمواقف القوية والجريئة للرجل حتى مع قادة العالم، فدراسة مساره تحتاج إلى تقسيمها إلى مرحلتين، حياته ما قبل 1967 والقسم الثاني ما بعد 1967، فقد تأثر بالفترة الأولى كثيرا جدا، فحياته بمصر ونشاطه هناك هو علامة الاستفهام، أكيد كانت له نشاطات ومواقف مهمة هناك لازلنا نجهلها، خاصة في الجانب الثوري لاسيما عندما نعلم بتواصله مع الرئيس “جمال عبد الناصر” ومطالبته له بعدم إعدام “سيد قطب”، وهو من سيتكفل بالموضوع.
وأضاف الأستاذ “بوعرفة”: “لما يحصل صحفي بسيط على وسام الاستحقاق من “جمال عبد الناصر” مباشرة، في تلك الفترة بمصر، فإن هذا يدل على أن الأمر ليس بسيطا وليس سهلا، الجمهورية العربية المتحدة وهي تسمية مصر في تلك الفترة الذي سماه بـ”المراسل الأول” لوكالة الأنباء للجمهورية الجزائرية بالقاهرة”. وقد رافق الرئيس الراحل “هواري بومدين” و”عبد العزيز بوتفليقة” الذي كان حينها وزيرا للخارجية لحضور جنازة الراحل “عبد الناصر”، وأثناء تواجده بالمكتب بمصر لما بدأت مفاوضات الرئيس المصري “أنور السادات” مع إسرائيل، ذكر أن الرئيس “هواري بومدين” اتصل به واستشاره في غلق المكتب وقد وافق على غلقه دون تفكير.
أيضا رئيس إيران “آية الله الخميني” الذي نجا من سجنه بأعجوبة، واضطرار الزعيم الراحل “هواري بومدين” إلى مرافقة الزعيم الليبي الراحل “معمر القذافي” إلى مدينة وهران، لتمكينه من لقاء الأستاذ “البخاري حمانة”، لاسيما وأن “البخاري” لم يكن على توافق مع الرئيس بومدين، ولأن الراحل كان يهمه بناء الفكر والعقل الواعي المدبر لم يلتفت إلى المناصب والجاه، وظل يرفض المناصب المقترحة عليه ولم يقبل بأي منصب اقترحه الرؤساء عليه بداية من “بومدين” إلى “بوتفليقة” مرورا بـ”الشاذلي بن جديد”، حتى أنه لم يكن على وفاق مع الراحل بوتفليقة بعد تقلده الحكم لعدم توافق رؤيتهما، رغم قرب العلاقة بين الرجلين.
المتابع لمسيرة الرجل، يلاحظ أن هناك قدرة رهيبة أو ما يمكن اعتباره سرا في إدارة علاقاته الخاصة، وله طريقته في التواصل مع الآخرين بناء على رؤيته الخاصة، كونه لا يخلط بين العلاقات الشخصية وما يخص الأمة، وأنه يضع الفكر والوعي في مرتبة أرقى فهو يقدس الإنسانية كأولوية في بناء الأمم والحضارات، وهو ما يفسر تواضعه وطريقة تعامله مع طلبته الذين كان يسايرهم كأصدقاء قبل أن يكونوا دارسين لديه، ولأنه يهتم بالعقل ومستوى التفكير فقد كان يسمح لطلبته بمصاحبته والجلوس معه في المقهى العام ومناقشة مواضيع دراستهم الفلسفية والتوسع إلى الحياة العامة، وهناك من ذهب لتسميته بـ”شغيفارا الفكر”، في الوقت الذي قال الأستاذ “بوعرفة” أن المفكر “البخاري” كان يوصل رسائله عن طريق السخرية والنكتة فكلها رسائل مشفرة. مردفا أن “المفكر “البخاري” بحاجة إلى إخضاع سلوكه اليومي للدراسة، فهو كان وجوديا في يومه، براغماتيا في فكره، روحيا في إسلامه، قوميا في شعاراته وإنسانيا في عمله، وبالتالي فهو الواحد المتعدد، موضحا أن هذا الواحد المتعدد يستحق دراسة خاصة، لأن من يكون بهذه الخاصية ـ حسبه ـ يكون منفصما”، متسائلا: “لهذا نرى هذا الانفصام يعود إلى ماذا: هل إلى الطفولة، لاسيما وأنه كان يقول كنت أنتعل بطن قمي بمعنى كان حافيا”، ولهذا كتب الأستاذ “بوعرفة” مقالا حوله بعنوان “الفيلسوف الضاحك” لكن الحقيقة أنه الفيلسوف الباكي، لأنه تعذب وعاش المعاناة وبقي متذكرا لكل تفاصيل حياته إلى جانب الأزمات التي عاشها في حياته، وهي من جعلته ليكون الواحد المتعدد.
مردفا: “لقد صاحبته في خرجاته كثيرا، وأصبحت أعرفه عن قرب، فعندما يقول نكتة هي دليل أنه يعاني من ألم ومرارة، لم يكن على وفاق مع “بومدين”، حتى أنه بقي متخفيا بماخور لمدة 6 أيام هروبا من رجال “بومدين”، لأنه كان مبحوثا عنه، بسبب مواقفه وآرائه الحادة، وقد التقى رجل المخابرات في 2004 وارتشف معه القهوة، سأله عن ذلك الوقت أين اختفى، قائلا: كنا نبحث عنك لتركب 504. فرد “البخاري”: “لجأت إلى الماخور، لأنه مكان لا تفكروا فيه أبدا”، كما زار “معمر القذافي” الجزائري واضطر الرئيس “بومدين” لمرافقته إلى وهران للقائه بالأستاذ “البخاري”، متسائلا لماذا ننكر رجالاتنا في حياتهم ونكرمهم بعد رحيلهم. وأضاف الأستاذ “بوعرفة”: “في الجزائر ينقصنا مجال النقد للأشخاص ليس في شخصهم وإنما لمواقفهم وأفكارهم، فقد تطورت فرنسا بالنقد، وإذا أردنا التطور علينا، لأن المجاملة هي تحصيل حاصل بالنظر إلى التركة التي يخلفها المفكر أو العالم والباحث الجزائري، لكن نحن بحاجة إلى النظر بعين الباحث المتفحص والملاحظ والمتسائل للشخص الذي نحن بصدد تناول أفكاره وسيرته، لنرى ما وراء النص، فمثلا “البخاري” له أفكار عن الثورة ما كان له أن يقولها، لأنه استعمل منهجا فيه بعض الهنات أوصلته إلى نتائج لا تتوافق مع الثورة الجزائرية بمنظورها العام وليس الخاص”، حسبه. وقد وافقه الأساتذة الحاضرون الرؤية فيما يخص غياب النظرة النقدية لرجالاتنا المفكرين بالجزائر.
الأستاذ الذي تجاوز عقدة اللغة وتمسك بعروة الفكرة
من جهته، ذكر الأستاذ “حكيم صايم”، الذي كان طالبا عنده، أن المفكر الراحل “حمانة البخاري”، قامة فكرية، يكفي مراجعة مقالاته في مجلة الأصالة ومجلة الثقافة حتى تعلم أن أنه معروف بالنسبة لجيله الذي شارك في تأسيس الجزائر ثقافة وتحريرا، فهو ليس غائبا عن الوجود كان نجما وسيبقى نجما، ببساطة لأنه ساهم في بناء الصحافة أولا، علم النفس ثانيا ثم الفلسفة ثالثا بجامعة وهران بين 1972-1980.
ولهذا من الواجب ـ حسبه ـ، أن يكون علم النفس جزء من ذكراه وكذا صديقه الذي ساهم إلى جانبه في بناء قسم الفلسفة الأستاذ “محمد عبد اللاوي” والمشرف على أطروحته، الذي تبين أنه مريض. كما أوضح الأستاذ “صايم”، أن الفيلسوف “البخاري” كان يشتغل بحماس وبروح قومية وإسلامية، والتقاه كطالب في 1984، عندما كان الالتحاق بتخصص الفلسفة يتم عن طريق الفلسفة، قائلا: “سجلت بعلم النفس ولكن فضلت الفلسفة، ليس مثلما أصبحت عليه الأمور اليوم وهي تسير نحو التدهور”.
مضيفا أن “البخاري” درسهم مقاييس عديدة، من أهمها فلسفة التاريخ، فقد كان يتمتع بثقافة التحدي، من اللاشيء يكتب أشياء، ومن اللاشيء صنع أقساما، حيث لم تكن قسم الفلسفة بل كان في أوراق بالمحفظة، كانت عنده ظروف صعبة، لكنه عمل بصدق وكان يحفز الطلبة ويصادقهم ويشجعهم. مردفا أنه في 1983 كتب مقالا برأ فيه الفلسفة، فقد برر فتح قسم الفلسفة الذي لم يكن فتحه سهلا في تلك الفترة بكل من جامعتي وهران وقسنطينة، حيث عنون مقالا له بـ”دفاعا عن الفلسفة” سنة 1984 ونشر في 1986 بمجلة الثقافة، العدد 94، صفحات 140-149. كما أنه لم يعاني من عقدة اللغة، وقد كان يدرس باللغتين العربية والفرنسية رغم وجود صراع حقيقي خلال تلك الفترة بين الأساتذة المفرنسين والمعربين، إلا أنه نجح في تجاوز هذا المشكل ولم يلتفت له، وأثبت أنه كان صراعا مفتعلا ولهذا كان يكتب باللغتين، واستطاع أن يكون جيلا من الأساتذة في مختلف الأطوار وقد كان حجر الزاوية في بناء معهد الفلسفة بجامعة وهران، وقد شغل مناصب قيادية به. مسترسلا: “… ومن حسن حظنا، أن الوزارة الوصية أسست مخابر، فاهتم مخبر الفلسفة بجمع مقالات الأستاذ “البخاري” في كتب بمساهمة رئيس المخبر “بوعرفة”، فبخاري هو ملحمة لأنه ترك الكثير من المواقف فلسفية ولا يخشى قول رأيه بكل صراحة ووضوح، لا يكتفي بالدرس بل يسمح بالتعليق والمناقشة ويشارك في الندوات داخل وخارج الوطن، تمكن من استشراف الكثير من المحطات التي حدثت فعلا، وذلك لكثرة مطالعته فهو يقرأ كثيرا، وله باع في علم النفس، وقد اتجه إلى الكتابة الفلسفية، لأنه رأى أن الجانب النقدي أهم من جوانب الأخرى، ويبقى مدرسة وسيساهم المخبر ربما في تجديد إرثه وهذا هو الايجابي، فالبخاري لم يكن يعنيه حجم ما يقال بقدر ما كان يركز في جودته ونوعيته، موضحا أن المفكر يهمه أن تقول قليلا وحاملا للصدق والحقيقة أفضل من قول كثير وتعبئته بالأكاذيب والتلفيقات.
القضية الفلسطينية و”لعبة الإرهاب الغربية” كانتا في صلب التفكير
وفيما يخص القضايا الدولية، فإن الحضور أكدوا أن الفيلسوف “حمانة البخاري”، لم يكن في منأى عن الإدلاء بدلوه فيه، وتوسيمه من طرف الرئيس المصري “عبد الناصر” شخصيا يدخل في هذا الإطار، وورود اسمه عند القادة في العالم دليل على أنه كان شخصية لها تأثيرها الخاص.
وقد أخذت القضية الفلسطينية حيزا واسعا من مقالاته الاستشرافية التي تناول فيها مستقبل فلسطين بناء على الأحداث السياسية التي كانت سائدة وقتها، وانتهت مقالاته إلى عيش ما قاله منذ سنوات واقعا في أيامنا هذه، ولهذا يمكن العودة إلى مقالاته والتمعن في ما قاله، لأنه تنبأ من خلالها بالعديد من الأحداث التي وقعت فعلا، وقد كان للعشرية السوداء في الجزائر نصيب منها.
وبالعودة إلى القضية الفلسطينية، فقد كان يرى المفكر “البخاري” أنها لن تجد حلا في تناحر العرب، وحلها في اتحاد الشعوب العربية وتوحد كلمتهم وموقفهم. وبالعودة إلى التركيز على الفترة التي قضاها بمصر كصحفي وكالة الأنباء الجزائرية آنذاك، وبعد الثورة الجزائرية رفضه الحصول على “بطاقة مجاهد”، وتجنبه الخوض في هذه المساحة التاريخية من مسيرته حتى مع المقربين منه، واكتفائه بالمعروف عنه في العموم، دليل مهم على أن دوره كان أكثر من الدور الإعلامي الذي قام به في دولة تونس خدمة للثورة الجزائرية، حين عين على رأس تحرير البيانات الثورية هناك، مقارنة بما قدمه بمصر وحتى أنه كان يستشار في قضايا مصيرية، وهو ما يشير أيضا إلى مساهمته في القضية الفلسطينية.
فيما ذكر الأستاذ “مهدي سويح”، أن المفكر “البخاري حمانة”، كان يكتب مقالاته بمفردة “الأمة العربية” ولم يفصل بين البلدان العربية، لإيمانه الراسخ بضرورة التفكير الجمعي لعديد العناصر المشتركة بيننا. مشيرا أن المشروع الإسرائيلي “نحن شعب بلا أرض نسعى للحصول على أرض بلا شعب”، هي فكرة تتجسد اليوم على حساب الأمة الفلسطينية. مضيفا أن الأستاذ “البخاري” كان من المساهمين في التعريب بالجزائر وبتحركاته النقابية والفكرية، فقد كان فكرا متحركا ومواجها لكل المشكلات سواء واقعية أو فلسفية. كما خاض في “ظاهرة الإرهاب” التي أصبحت تنسب للإسلام من طرف الإسلاميين من داخل المجتمعات المسلمة نفسها، بدعوى محاربة الحداثة ومن ينسبها لا يعرف رمزيتها الحقيقية، وهي لا تعرف شيئا عن الإسلام معتبرا أن هذه “لعبة مفاهيمية كبرى” تُلعب، يلعب بها الغرب، لكنه في ذات الوقت تنبأ بأن الظاهرة الإرهابية ستكون عند الغرب وسيعانون منها، لأنها ستنقلب عليهم، وهنا يقول: “لا يوجد إرهاب، بل يوجد تعصب ثم تطرف ثم الإرهاب”، موضحا أن هذا يصيب المجتمعات الإنسانية وليس محصورا على المجتمعات العربية والإسلامية فقط، وهو ما يستدعي أخذ الحيطة والحذر منها.
“الصرامة” منهاجه في تربية الأولاد والقيام بمهنته
وبعيدا عن حياته المهنية التي كانت صارمة وقد جلبت له الكثير من الصدامات مع محيطه، نظرا لتفكيره بصوت مرتفع، وإدلائه بمواقفه وأفكاره بطريقة جريئة وصريحة جدا، وهو ما كان يتعارض مع قناعات الطرف الآخر من النقاش أو الموضوع.
وخلال وجوده على رأس قسم الفلسفة بجامعة وهران وتعارض رؤيته مع من أصبحوا زملاء له بعدما كانوا سابقا طلبة عنده، أدى إلى انقلابهم عليه ورفض العمل معهم، وهو ما أثر عليه نفسيا وكان جزء من الألم الذي رافقه إلى نهاية حياته، وهو ما ذكره الصحفي الذي صاحبه خارج العلاقة المهنية “لحسن بوربيع”، الذي أفاد أن الراحل “البخاري” كان نبيها وإنسانا عاشقا للتنكيت وتوزيع الابتسامة على محيطه، حتى أن علاقة الصداقة بينهما بدأت بإطلاق لقب “بوخريف” على “بوربيع”، وعندما صحح هذا الأخير للأستاذ “البخاري”، رد عليه بأن يختار فصلا من الفصول لأنه يتغير دوما، وهو ما فهم على أن الأستاذ “البخاري” كان يقرأ كتابات الصحفي “بوربيع”، ويلاحظ مساره الكتابي وتغيراته المختلفة وفق المواضيع التي يعالجها باختلاف أنواعها، فاختار الإشارة إلى الاسم الشخصي له، وأصبحت علاقتهما قريبة جدا.
في حين، اختار ولديه التطرق إلى الصرامة التي كان عليها معهما في حياتهما العائلية، وهو ما جعل ابنه الأصغر “عمر” يتطرق إلى يوم نجاحه في شهادة البكالوريا، حين خاطبه والده “حققت النجاح في شهادة البكالوريا؟ !”، فرد “عمر” بكل فخر: نعم. وكان ينتظر أن يفاجئه والده بجائزة أو هدية خاصة، بيد أن الوالد “البخاري” صدمه بقوله: “لا داعي لأن تطيل السهر خارج البيت ليلا”. وهو ما يعني أن “عمر” مازال تحت المراقبة الأبوية اللصيقة، ولا يعني نجاحه بالبكالوريا التحرر من مراقبة والده. ومن جانبه، قال الابن الأكبر “خالد: “لازلت أحفظ نصيحة والدي، التي كان يرددها لي دوما: ثقف نفسك، إذا لم تثقف نفسك سيتلاعبون بك، ولا تضيع وقتك أمام شاشة التلفاز، بل احمل كتابا وطالع، لأن الشخص المثقف هو شخص محصن”. وهي النصيحة المهمة التي رافقتني وأفادتني في حياتي المهنية، وكثيرا ما رفضت بعض نصائحه، لكن عندما كبرت وكونت أسرة وجدت نفسي أسير على خطى والدي في تربية أولادي، كما أتذكر جانبا من بعض تصرفاته كدخوله وخروجه إلى المكتب بالبيت وعلاقاته الجيدة والخاصة مع جيرانه.
ساعة ونصف عمر الفيلم الوثائقي عصارة 150 ساعة من الشهادات
وبالحديث عن هذه اللمة الحميمية التي اختارها صاحب الفيلم الوثائقي وكاتب السيناريو، الأستاذ “أحمد بن ادريس” الذي أبدى تأسفه على التأخر الذي عرفه إنجاز الفيلم الوثائقي، لأنه كان قد وعد الأستاذ الراحل “حمانة” إنجازه في حياته، حتى يتطرق إلى خفايا وخبايا زوايا لم يظهرها الأستاذ أثناء مساراته المهنية سواء مجاهدا أو صحفيا أو أستاذا، وقد كان يحضر لذلك في 2017، بيد أن الظروف الصحية للراحل “البخاري” والموت كان أسرع ليغيبه قبل تنفيذ الفكرة.
ولأن الأستاذ “بن ادريس” خبر الرجل وعرف مكامن قوة المفكر ودرجة تأثيره في محيطه، لم يلغ الفكرة، بل نفض الغبار عنها وشد الرحال إلى وزارة الثقافة التي وافقت على الفكرة الوزيرة السابقة “صورايا مولوجي” ومنحته الموافقة، لينطلق في تصوير العمل في 2024 بدعم وزارة الثقافة. حيث أمضى مع فريقه أشهر، سمحت لهم بالحصول على 150 ساعة من شهادات مقربيه ومن عايشوه، لاسيما منطقة مولده “قمار” التي تحتاج هي الأخرى لدراسة خاصة لمعرفة السر الذي ساعدها لتكون منصة لانطلاق الكثير من المفكرين المؤثرين الذين استطاعوا غزو الوعي بأفكارهم النيرة، رغم الفقر والعزلة والبعد عن المدينة، فكان لنا أبا القاسم سعد الله، الطاهر التليلي، مدرسة النجاح، حمانة البخاري وآخرين…، مضيفا أن اللقاء هو فرصة للتذاكر وتذكر شخصية مهمة في حياة الطلبة والأساتذة وتاريخ الجزائر ثورة واستقلالا، الراحل “بوخاري حمانة” مؤسس قسم الفلسفة في جامعة وهران، صاحب كتب وهو سليل عائلة محبة للعلم مربية للأجيال. فقد كانت حياته دراما، فكاهة، وهو فيلسوف يفكر ينتج المعرفة، عانى في طفولته، حتى أنه سمي “الطفل الحافي”، لأنه كان ينتعل بطن قدميه كما كان يقول عن نفسه، أي أنه كان يمشي حافي القدمين وهو ذاهب للدراسة، نظرا لشدة الفقر والحرمان، لكنه نجح في مدرسة النجاح التابعة للعلماء المسلمين ونجح بامتياز في المدرسة الفرنسية وانتقل بعدها إلى جامع الزيتونة بتونس، ثم انضمامه إلى الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي، وواصل دراسته بالقاهرة وتخصص في علم النفس، ثم الفلسفة وبعدها مارس الصحافة، كما مارس الديبلوماسية، كان ملحقا ديبلوماسيا بالسفارة بالقاهرة، بعدها انتقل إلى الصحافة، كما كان رئيس فرع الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين في مصر. وأضاف “الأستاذ “بن دريس”، أنه خلال الأبحاث تبين للفريق أنه خلال الثورة التحريرية، كلفته جبهة التحرير الوطني بقيادة تحرير المنشورات الخاصة التي كانت تصدر بتونس، هو من كان مكلفا بها، والوثائق شاهدة وستبث عبر الفيلم الوثائقي الذي حاول جمع زبدة الزبدة من أعمال ومناقب الراحل.
لأنه في حياته لم يكن يحكي عن مشاركته في الثورة، ما يكشف أنه كان يتجنب كل ما يثير الحساسيات والأنانية ولم يفتخر يوما، بينما كان يذكر أنه منع من حمل السلاح خلال الثورة لبنيته الجسدية الضعيفة، لكن وثائق حقيقية تثبت أنه كان عنصرا مهما في الجانب الإعلامي للثورة لاسيما بالشقيقة تونس. بينما كان يريد أن يمنح أكثر ويقدم الأفضل وقد كان له مشروع “مذكرات شاهد على القرن”، لكن لم يتم المشروع فيه لوفاته، في وقت تبقى الفكرة قائمة وقابلة للتجسيد حسب الأستاذ “بن دريس”. في وقت عبر فيه ابنا المفكر الراحل “حمانة البخاري” عن سعادتهما وأختمها الوحيدة إيمان المتواجدة بكندا بالالتفاتة الطيبة لإحياء فكر والدهم الذي يعتبر ثروة لثورة فكرية وميراث من حق الأجيال الجزائرية الاطلاع عليه واستغلاله في بناء الوعي والمجتمع القائم على التسامح والتعايش بعيدا عن العنصرية والجهوية المقيتة، إلى جانب تسليط الضوء على بعض مما تركه، بعدما وهب حياته الفكرية والمهنية لبناء الإنسان.
يذكر أنه سبق وقام البروفيسور “ميلود دومة” أستاذ الفلسفة بجامعة الشلف أن أصدر سنة 2022 مؤلفا عن الفيلسوف المفكر “حمانة البخاري”، تحت عنوان “البخاري حمانة، فيلسوف الثورة الجزائرية”، عن دار منشورات الوطن.
ميمي قلان