
بقلم: الأستاذ “الحاج نور الدين احمد بامون” (ستراسبورغ – فرنسا)
مازال تاريخ ثورة التحرير الجزائري يحكي سير ومآثر الرجال الذين لا يعدون على الأصابع، بل ظل عددهم غير معروف نظير أعمالهم الجليلة وبطولاتهم وسيرهم المشرفة. تعتبر مسألة الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م من أهم القضايا في تاريخنا الوطني الهام، الذي مازالت الأقلام تدونه وتوثقه ولم تنته لحد الساعة.
الجنوب عامة الذي أضحت مناطقه فيما بعد نقطة هامة يلجأون إليها ويحتمون فيها، وهذا التلاحم الذي كان بين شمال الجزائر وجنوبه، هو الذي دفع الفرنسيين للتوسع والتوغل أكثر في منطقة الجنوب عن طريق البعثات الاستطلاعية والحالات الاستكشافية والحملات العسكرية. ومنطقة المنيعة ومتليلي الشعانبة وغرداية كغيرها من جهات الوطن، رفض سكانهم الرضوخ لمطالب المحتل الفرنسي وتصدوا لهم بكل حزم. والدليل على ذلك مشاركتهم في الثورات الشعبية وهذا ما جعل المستدمر يرغب في السيطرة عليها، وكان يعتبر شعانبة متليلي خاصة وسكان المنيعة وغرداية من أشد أعدائه وهذا ما جسدته سياساته بعد احتلال المنطقة، فلم يثن ذلك أبناء المنطقة عن عزيمتهم، فانخرطوا في عدة أحزاب سياسية وبعد اندلاع الثورة التحريرية، التحق الكثير من أبناء متليلي الشعانبة بالمناطق الغربية والشرقية بالقاعدة الجنوبية الخلفية، وحتى خارج الحدود بالدول المجاورة على فترات متتابعة، وواصلت الفرق الباقية نشاطها بالمنطقة إذ سجلت العديد من العمليات العسكرية الفدائية والاشتباكات والمعارك.
ومن بين رموز هذه الثورة المظفرة، الشاب الغيور والمجاهد الصامت المتعطش للجهاد “الحاج مصطفى بن بيتور” من سليل عائلة “بن بيتور” الثورية منها على سبيل المثال الشهيد “الحاج علال بن بيتور” المرمي جوا من الطائرة رحمه الله.
أصله ونسبه
ينتسب “مصطفى بن بيتور” إلى عائلة عريقة بالجنوب الجزائري بمتليلي الشعانبة (الأوراس الثانية) بنواحي ولاية غرداية، المنتمية إلى واحدة أعرق أقاليمها العتيقة والتي عانت بدورها ما عنته باقي ربوع البلاد من ويلات وجرائم الاحتلال الفرنسي، حيث ولد “بن بيتور مصطفى” في فًترة جد حرجة من تاريخ البلاد، والتي قابلتها ظروف خارجية جد قاسية ومتوترة. تمثلت في اضطرابات الحرب العالمية الأولى (1914-1939) في مرحلة من أهم مراحل النضال والحروب.
هو “بن بيتور الحاج مصطفى بن الحاج بيتور” وأمه الحاجة العالية بنت الطيب بلعمش، من مواليد سنة 1936، من أسرة ثورية مناضلة محافظة ميسورة الحال، اجتماعية معروفة النسب بالجنوب الجزائري من قبيلة عشر الشعانبة الأبطال. تربى على يد أمه بلعمش الحاجة “العالية بنت الطيب”، بعد وفاة أبيه الحاج “بيتور” في سنة 1944، تربى على أصول الدين وحفظ القرآن والعلم والعمل في طاعة الوالدين .
تعليمه القرآني والنظامي
كباقي أطفال الحي بالمنيعة، دخل الكتاتيب المدرسة القرآنية وتعلم فيها ما تيسر وحفظ ما أمكنه من القرآن الكريم، زاول تعليمه النظامي بمدارس مدينة المدنية مدينة 44 والي طهورت إلى غاية نهاية السنة الدراسية بمستوى السادسة بالفصل الابتدائي، وإتمام مرحلة المتوسط. إلا أن ظروف المستدمر الفرنسي لم تسمح له ولم تمكنه من إتمام دراسته العليا كباقي الشباب وقتها. كان الحاج “مصطفى بن بيتور” رحمه الله ملهم بالمعرفة وقراءة الكتب بشراسة لا نظير لها. بعد حصوله على المرتبة الأولى في الامتحان نهاية المرحلة الابتدائية (cours fin d’études) التحق بالعمل في إحدى الحقول البترولية المجاورة لمدينة المنيعة. حيث عمل بها مع أحد رفقائه “سيراج” أخ الفقيد “سيراج الحاج أحمد” (مفتش التعليم الابتدائي رحمه الله)
الحياة العملية والمهنية
وبانتهاء دراسته بمرحلة المتوسط واشتداد عوده وبلوغه ين الشباب اليافع، المتفتح الواعي ،المدرك بتميز وحس وطني للوضع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، لاحت بوادر التفكير في ذهنه للبحث عن مخرج ورفض للوضع السياسي وحالة الظلم والقهر المفروض على الشعب الجزائري بالمنطقة من طرف الاحتلال الفرنسي يومها. وتولد في فكر الشاب “بن بيتور مصطفى” سليل عائلة “بن بيتور “الثورية المجاهدة التي ذاع صيتها بربوع القطر الجزائري منهم على سبيل المثال والذكر لا الحصر الشهيد “بن بيتور الحاج علال”، فأنطلق في رحلة البحث في كيفية محاربة العدو الفرنسي والتخلص منه، ومع مطلع سنة 1956 إلتحق بالنضال والانخراط في صفوف جبهة التحرير الوطني تنفيذا لفكرة الشباب المتدمر الرائجة يومها تحمسا ودفاعا عن الوطن خلال تلك الحقبة الصعبة والزمن المرير الذي عاشه الشعب الجزائري عامة وفئة الشباب الرافض خاصة.
نضاله
في وسط الخمسينيات 54 – 55، وقع تفتيش عام بمدينة المنيعة للقبض على الحاج “علال بن بيتور”، ففر إلى مدينة غرداية على متن شاحنة بضائع، عند وصوله إلى عين المكان ليلا، اتجه إلى صديق له بمدينة بن يزقن واختبأ عن الأنظار لفترة قصيرة. كانت فرصة من ذهب للاتصال بالزملاء الشعانبة المجاهدين وكسب المعلومات عن مجريات الكفاح ضد المستعمر، فانخرط بدون تردد في الجماعة لكن لم يسعده الحظ في الرحيل معهم غربا إلى معسكر القائد مولاي آنذاك.
اندمج وانهر في الحركة الثورة والحس الوطني والنضال السياسي، وانخرط في صفوف إحدى الجماعات الثورية قليلة العدد، التي كانت على أهبة الاستعداد الخروج من مدينة غرداية والتوجه لجهة الغرب الجزائري للالتحاق بالولاية الخامسة لجيش التحرير الوطني، في تلك الآونة وقعت معركة صغيرة بين أصدقائه المجاهدين والمحتل بوسط مدينة غرداية، انتهت بفرار الجماعة إلى غرب الجزائر وقيل له لا يمكنك مرافقتنا إلا بعد تحصيلك على بندقية حرب. فالحظ التعيس لم يمكنه من الالتحاق بالمجموعة لأن المطلوب من المجند الملتحق أن يكون يملك قطعة سلاح بندقية وغيره لمواصلة الكفاح و دخول معركة محاربة العدو الفرنسي. مما أجبر على الانفصال عن المجموعة والمكوث لمدة ثلاثة 03 أشهر يعمل لا هم ولا شغل له، سوى التفكير في كيفية الحصول على قطعة سلاح وجمع مبلغ ثمنها، فاشتغل وجمع مبلغها وتحصل على قطعة سلاح بندقية من صنع إيطالي من نوع سداسية.
التحاقه بجيش التحرير الوطني
وبامتلاكه للبندقية وتسلحه وتشجه واستعداده النفسي والبدني، توجه إلى مدينة بريان والتي لم يمكث بها طويلا ونظرا للظروف الأمنية الطارئة الصعبة التي حلت بالمنطقة. شاءت الأقدار أن يتجه نحو الشرق واستغل رحلته مشيا على الأقدام لمدة أسابيع. ونهاية المطاف تمكن من الاتصال بصفوف جيش التحري الوطني بمنطقة امدوكال بولاية باتنة بالشرق الجزائري، فكتب الله الجهاد بشرق البلاد بعدما كان ينوي الجهاد بغرب البلاد، بعد أن أنهى فترة التدريب، التحق بجبال الكفاح تحت إمارة “سي العقيد سي الحواس” يجوب جبال بوكحيل وما جواره إلى إن أستشهد قائده العظيم وتأثر به. التحق بعد ذلك بصفوف الجيش تحت قيادة “سليمان سليماني” الملقب بـ “سليمان بالكحل” أين عين ككاتب رسمي له لأنه كان يمتاز بالقراءة والكتابة بخط جميل والذي كان دائما في خلاف معه في مسألة الخطط والتوجيهات العسكرية.
إصابته بالمعارك
أصيب عدة مرات في مختلف المعارك، منها في كتفه التي أردته فاقد الوعي ليوم كامل في نواحي الجلفة إلى أن فاق على إثر جراحه بعد المغرب، وواصل السير وحيدا يتألم لمسافة كبيرة حتى المركز.
مشاركته
يعود الحظ مجددا لكي لا يحالف الشاب “بن بيتور مصطفى”، فيعجب ببندقيته ويأخذها منه لنسفه ويسلمه قطعة مسدس من صنع تشيكي، قائلا له جاهد وخض المعارك وتحصل على بندقية أخرى. فعمل المجاهد “مصطفى” بالنصيحة وجعلها نصب أعينه لا تفارق تفكيره المنبعث من حمساه الفياض وحسه المتشبع بالروح الوطنية، وقيمها وتعاليم مبادئ دينيا الإسلامي الحنيف.
فمن دوار إلى دوار ومن منطقة إلى أخرى ومن معركة وجهاد إلى أخرى، وجد المجاهد الشاب الطموح “بن بيتور مصطفى” نفسه منغمس في وسط الجهاد الأكبر والمعارك الضارية والحرب الضروس ومنغرس في الكفاح المسلح بأتم معنى الكلمة بتحقيق حلمه الغالي الذي قطع من أجله مئات الكلوميترات وسهر الليالي وتورمت قدميه من المشي وتسلق الجبال الصخور وقطع الوديان وأصعب المسالك. ومن منطقة إلى أخرى ساقته الأقدار إلى التوجه إلى منطقة الجلفة رفقة رفقاء السلاح. أين تنفست الصعداء وراح يجول ويصول منتقلا بين جبل بوكحيل بحماس ومشاعر جياشة إلى منطقة حد الصحاري وبالسياسة ووحاسي بحبح.
عمله السياسي
رويدا رويدا وبتمكنه من دواليد الجهاد والنظام وإتباع أوامر قيادة جيش التحرير، وتعليمات الضباط وبإخلاصه وتفانيه وانصياعه للتعليمات والقيام بعمله الثوري المسلح بما تحمله الملكة من معنى، انخرط في العمل السياسي متقلدا الرتب والوظائف الواحدة تلوى الأخرى، ورقي سنة 1961 إلى منصب رئيس قسمة، وانتقل بعدها على صفوف قوات الرائد سليمان لكحل، مواصلا جهاده وكفاحه المسلح لغاية يوم الاستقلال 05 جويلية 1962. بعد الاستقلال، استقر بمدينة الجلفة كضابط ملازم أول حيث تزوج 1962-1963 فيها وأنجب بنات وأولاد.
عمله بعد الاستقلال
مع مطلع فجر الاستقلال عين في منصب مفتش بالجيش الوطني رفقة زميله الضابط “مبروك برينيس”، تحت رئاسة “أحمد بن إبراهيم”، واعتزل بعدها الجيش نهائيا وفارق السلاح وتوجد للحياة المدنية ومنها للعمل الإداري.
الحياة المهنية
واصل المجاهد “بن بيتور الحاج مصطفى” عمله في محطة بنزين بالجلفة من سنة 1963 إلى غاية 1971 ، والتي لم يسعده الحظ إثر حادث مرور وقع له في منعرج خطير ناحية حاسي الرمل (بين الأغواط وغرداية) والذي دخل على إثره إلى مستشفي غرداية في غيبوبة فاقد الوعي والصواب لمدة 6 أشهر. أنهى به الأمر بعد ذلك كعون مصالح اقتصادية بمدينة المنيعة بالمتوسطة الفلاحية CEA إلى غاية 1978 ثم متليلي كرئيس مشروع مصنع الجير من 1979 ومشتقاته بالمنطقة الصناعية بمتليلي الشعانبة التابعة يومها لولاية الأغواط، الذي بقي فيها إلى غاية خروجه للتقاعد سنة 1982 وخلوده للراحة والاستقرار بمتليلي الشعانبة.
أداء فريضة الحج
كتب الله للمجاهد “بن بيتور الحاج مصطفى” أداء فريضة الحاج الذي مكنني الله مرافقته فيها سنة 1994. الأيام الجميلة والأوقات التي لم تمحى لحظ الساعة وأنا أستمع إلى نصائحه وإرشاداته وحديثه المشوق عن الثقافة عموما والتاريخ خصوصا. وقرصته للأذن اليسرى وكلمة فيستون FIston بابتسامته العريضة المخففة من ألم “القرصة”.
وفـــاتــــــــــه
وفاته المنية الحاج “مصطفى بين بيتور” يوم 01 جوان2001، بمستشفى سيدي محمد الجزائر إثر مرض عضال ووري الثري بمديتة متليلي الشعانبة بولاية غرداية، في جو جنائزي مهيب برفقة الأهل والأصدقاء والأسرة الثورية. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، كان هذا المجاهد “بن بيتور الحاج مصطفى” في ومضة لحين استكمال البحث لاحقا.