تكنولوجيا

البحث التاريخي من التقليد إلى الرقمنة

علم التاريخ في البحث الرقمي

لعل من أهم الأمور التي تحظى بعناية الباحثين هو التعرّف إلى الجديد في مجال البحث التاريخي، الذي يمكن الآن تتبُّعه عن طريق متابَعَة النشرات العلميّة التي تُصدِرها المعاهد، والمراكز العلميّة التعليميّة، وكذلك الجمعيات التاريخية عبر شبكة الإنترنت، وهذه النشرات الفصليّة تحوي الجديد في مجال نشر الكتب، وعقد المؤتمرات، والإعلان عن الندوات، والمحاضرات الخاصة بالتاريخ، أو العلوم المساعدة لها.

على هذا الأساس لا يمكن القول إن العالم العربي، ولبنان قد سلكا هذا الطريق بالشكل المطلوب، ما خلا بعض التجارب المحدودة التي تجري في الإمارات العربية المتحدة ومصر، إذ تغيب عن برامج وزارات التعليم العالي في العالم العربيّ، ومراكز الأبحاث العربيّة، والسياسات التربويّة، المشاريع التي تدعم عمليّة التحوّل الرقميّ الملحّ في الأقسام المتعدّدة للعلوم الإنسانيّة، وتحديدًا المصادر، والعلوم التاريخيّة، وتطوير قواعد ومحرّكات البحث العربيّة، وتحديثها بشكل دائم بما يؤدّي إلى استقلاليّة القاعدة الرقميّة العربيّة، ومحرّكات البحث الإلكترونيّة العربيّة بما يعني وضع هُويّة لها كجزء لا يتجزّأ من التنمية والتطوير؛ وفي هذا المجال لا يكفي فقط الاستناد إلى المعلومات التي يوفّرها محرّك “غوغل”، و”ويكيبيديا”، و”قنوات يوتيوب العلميّة”، و”إنترنت بابليك لايبريري”، و”ميكروسوفت أكاديميّك سيرتش”، و”أرشيف هوب” وغيرها، التي يغلب على الكثير من معلوماتها ظلال من الشكّ بسبب عدم توفّر البيانات البيبليوغرافيّة التي يمكن من خلالها الاستدلال على حداثة المعلومات، والمعطيات ودقّتها، والتحقّق من توفّر عنصري الثقة، والأمانة العلميّة، ما يدفع المؤرّخ إلى اقتباس معلومات غير موثَّقة كمصادر في بحثه، بما يتعارض مع أهمّ شروط البحث العلميّ أي الأمانة، والدقّة، والموضوعيّة، ما يؤدّي إلى ولادة دراسات هشّة، ويستدعي تحكيمها قبل الاستشهاد بها، وذلك وفقًا لمعايير محدّدة مطبّقة في العديد من الجامعات، والدول التي سنأتي على ذكر بعضها لاحقًا.

الاقتباس الإلكتروني

هناك الكثير من التعقيدات في مجال الاقتباس من المصادر الإلكترونية، إذ هل بالإمكان اقتباس مصدر من دون إبراز نسخته الأصلية (وثيقة، مستند، أحكام، مراسيم، رسائل، مخطوطات وغيرها)، إذا احتسبنا أن هذا النص التاريخي المقتبس هو مخطوط تمّ حفظه كما هو في الأرشيف بأصالته، ولغته الأصليّة القديمة مثلًا؛ هل أن صورته الإلكترونية تؤكد على مصداقيته؟ ..

عمليًّا، فإنّ الجواب عن هذا السؤال سيبقى غير مقنع، ذلك أنّ العمل مع المخطوطات في العلوم التاريخيّة يرفض قطعًا التعامل مع البديل بدل الأصيل، إنّ الاقتباس الإلكترونيّ المجتزأ يشوّه المصدر التاريخيّ ويشكّك في مصداقيّته، هنا تبرز أهمّيّة تحديد مستوى أصالة النصّ وهُويّته ((Identity)، مع أهمّيّة الإشارة الدقيقة إلى المصدر الإلكترونيّ أي محدّد موقع المعلومات، وليس فقط عنوان صفحة الويب، واسم الموقع، والسنة والشهر، بل هناك ضرورة ملحّة لإظهار سنة الوصول، وشهر ويوم الوصول إلى المعلومات بالساعة والدقيقة، وبالطبع محدّد موقع المعلومات كتحصيل حاصل. 

إنّ الأبحاث التاريخيّة، والثقافيّة، والوثائقيّة الرقميّة قد تتعرّض للكثير من التحوير، والتشويه، والتزييف، بعد أن مكَّنت شبكات الاتّصال الرقميّ داخل بيئة الإنترنت من الوصول المباشر إلى الأوعية الفكريّة المتعدّدة، وتصفّح محتوياتها، والاتّصال ببنوك المعلومات والمكتبات وقواعدها المتّصلة بالبحث المباشر في جميع أنحاء العالم، وهذا يعدّ من أكثر الجرائم الإلكترونيّة انتشارًا في عالمنا المعاصر، حيث يلجأ المخرّب للتشويش على المعلومات، والبيانات أثناء عمليّة بثها واسترجاعها، وذلك بالتحوير في محتوى الوثيقة دون شكّ فإنّ هذا يستدعي إتقان المهارات التاريخيّة البحثيّة الإلكترونيّة التي تهدف إلى الكشف عن المعلومات، والوصول إلى الحقائق، والدلائل، ووزن الأدلّة، وربط الأسباب والنتائج، والمقارنة والتمييز بين الحقائق، والخلاصات، والخروج بتعميمات، ومبادئ عامّة مقبولة من وجهة النظر التاريخيّة

مواجهة القرصنة

على أن السلبيات كثيرة، ويسعى العاملون في هذا الحقل جهدهم لسدها، ومنها مواجهة القرصنة، والحدّ من ضخّ المعلومات المزيّفة، وسرقة المصادر، والتلاعب، والاختراقات المحتملة.

ونجد لزامًا أنّه على الباحث والمؤرّخ أن ينظر نظرة نقديّة لكلّ ما يقدّم له من معطيات فيعرضها للتحليل، والتمحيص، والنقد البنّاء، وخصوصًا الرقميّة منها، بالطريقة التحليلية البحثيةنفسها التي كان يتعاطى في خلالها مع الوسائل الأخرى التي سبقت الثورة الرقميّة (استخلاص الحقائق التاريخيّة من مصادرها الأوّليّة، عقد مقارنة بين الأدلّة التاريخيّة، الحصول على المعلومات من الصور، والخرائط، والنقوش، والنقود، والمخطّطات التاريخيّة، ترتيب الأحداث، وتنظيمها مكانيًّا وزمانيًّا، قراءة المادّة تاريخيًّا، وفهمها، وإعادة صياغتها، وفهم المصطلحات التاريخيّة، واستخلاص أسباب الحدث والواقعة، والتمييز بين الرأي الخاصّ، والحقيقة الدامغة، ربط النتائج بالأسباب، وإصدار حكم وتعميم مدعّم بالأدلّة التاريخيّة)، على أنّ هذا يستدعي سلسلة من التغييرات التي تحتاج إلى مصادر تمويل كبيرة، وتحديث شبكيّ مستمرّ، وهذا يتطلّب:

تحديث النصوص التاريخيّة الإلكترونيّة 

تحديث النصوص التاريخيّة الإلكترونيّة التي تضمّ مئات الآلاف من الوثائق، والمصادر، والرسائل، والمستندات منذ العهود القديمة إلى يومنا هذا (تاريخ الشرق القديم وصولًا إلى العالم العربيّ المعاصر) بعيدًا عن تلك التي يسمح للباحثين العرب بالحصول عليها مقنّنة، وموجّهة من الأرشيف العثمانيّ، أو الفرنسيّ، والبريطانيّ وغيرها، التي ربّما تمّ التلاعب بها، أو تحريفها، أو تجزئتها وتقزيمها، كما يجب تحديث تلك الكتب النادرة التي صدرت بأعداد قليلة، واختفت نهائيًّا حتّى تلك المصادر التاريخيّة المحظورة والممنوعة. 

استحداث قواعد المعلومات التاريخيّة التي تحتوي على جداول رقميّة، وأرقام وإحصاءات في التاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، ففي لبنان تنعدم قاعدة البيانات (خرائط سجلاّت ورقيّة، قاعدة مشاريع الأبحاث والرسائل، المجلاّت والصحف، سجلاّت الخطب، والمواقف، سجلاّت الفنون الجميلة، والقوائم وغيرها). إنشاء القواعد الرقميّة المتخصّصة بإعادة إصدار الوثائق الرقميّة من وثائق، ومعاهدات، وصور قديمة حتّى أفلام تعبّر عن أحداث مفصليّة في مراحل تاريخيّة بعينها، وتطوير البيبليوغرافيّة التاريخيّة أي قاعدة المصادر، وثائق الدولة, والأحزاب، والجمعيات، وبيانات الصحف، ومقالات متنوّعة ذات بعد تاريخيّ وإلخ… إصدار القائمة الإلكترونيّة للكتب، والنصوص الإلكترونيّة، وتبويبها بعد مراجعتها، من قبل باحثين متخصّصين في اللغة والتاريخ وغيرها.

كم من التحديات 

إذ لا زلنا نرى أنفسنا أمام سلسلة من التعقيدات، إضافة إلى كم من التحديات، والمشاكل التي تواجه المؤرّخين اللبنانيّين، وكذلك المكتبات، ومراكز البحث الوثائقيّ التي تعتمد التكنولوجيا الرقميّة، ومن بينها: ضَعف البنى التحتيّة في المكتبات، ومراكز المعلومات، وينسحب ذلك على الأجهزة والبرامج وشبكات الاتّصال والتواصل وتكنولوجيّتها؛ الافتقار إلى المعايير الموحدة ومقاييسها في التعامل مع المصادر الرقميّة؛ الضَعف في البيئة التَّقنيّة والكادر والموارد البشريّة لجهة فنّ التعامل مع الشكل الإلكترونيّ لمصادر المعلومات؛ عدم استقرار المطبوعات والدوريّات الرقميّة المتعلّقة بمصادر المعلومات وانتظامها وخصوصًا الإلكترونيّة منها؛ المعوّقات والحواجز اللغويّة، فمعظم المصادر الإلكترونيّة الأكثر نفعًا هي في العادة باللغة الإنجليزيّة، واللغات الأخرى التي يستعصي على الكثير من الباحثين العرب الاستفادة منها. 

إنّ هذا يفضي إلى ضرورة أن يصار إلى السعي لتنظيم  وإتاحة المصادر التاريخيّة وتبويبها والعمل على بناء معايير وصفيّة تنظم المصادر التاريخيّة في شكلها الرقمي، وتمكين البحوث العلميّة في مجال النظم التَّقنيّة المتعلّقة بحفظ وإتاحة المصادر التاريخية، وبناء الكادر التخصصي، وتبادل الخبرات مع المراكز العالميّة، والدخول عبر استخدام التَّقنيّة الجديدة في خِدمة الأهداف الرئيسة للمؤرّخ، ومنها العمل على كيفيّة جمع المادّة التاريخية، ودراستها، ونشرها، ولتحقيق الاستفادة القصوى منها، وكيفية العمل مع قواعد المعلومات، كما يتطلّب إتقان تقنيات الإنترنت أي برمجيّات شبكة الإنترنت الأساسيّة لنشر المصادر الإلكترونيّة، والكتاب الإلكترونيّ EBOOK، والنشر بصيغة HTML، والنشر بصيغ النصوص المصوّرة PDF، والنشر بواسطة الأقراص المدمجة CD ROOM، والنشر من خلال تقنية web، التي تشارك في خاصّيّة التواصل مع الآخرين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى