الثـقــافــة

“البديل” تستحضـر الـذكرى الـــ 87 لــتـدشيـنـها

هكذا تأسسـت دار الحـديــث بتلمسان

تـعــتــبر دار الحديث إحدى المدارس العريقة في التاريخ والحضارة لمدينة تلمسان بالغرب الجزائري، حيث تشرفت بزيارة الأستاذ “عبد الحميد بن باديس” في سنة 1932م برغبة ملحة من أهلها، الذين رحبوا به وهرعوا عن بكرة أبيهم للاحتفال به، والاقتباس من نور عـلمه وواسع إطلاعه، فألقى فيها بالمناسبة درسا أحدث به دويا كبيرا، وتأسف الكثير من الذين لم يتسع المكان لحضورهم لسماعه،فأعلن أنه سيلقي محاضرة في المساء، فقام أهل تلمسان وهـيأوا رحب المكان في قاعة الأفراح، فما كادت تصل الساعة المحددة حتى كان المكان المهيأ غاصا بالجماهير التي أقبلت لسماع “ابن باديس” لأول مرة في حياتهم وفي مدينتهم، فأعجب الجميع (العام والخاص والصديق والعـدو) لفصاحة لسانه وبيانه، وواسع علمه وإطلاعه، ودام في محاضرته نحو الساعة والنصف لم يتوقف أثناءها وقفة، ولم يجر وراء شاردة، ولما انتهى من محاضرته نزل ضيفا في ديار أحد المصلحين أين قضى ليلته، فاحتفت به جماعة من علية القوم ووجهاء البلد، وأنصار الحركة الإصلاحية، فدار حديثهم معه على من عسى يكون قائد الحركة العلمية والفكرية، فوعدهم بأنه سيعمل على إرسال من تتوفر فيه كل الشروط لتلمسان، دون أن يعلن عن اسم الأستاذ الإبراهيمي.
وفعلا، فقد وفى بوعده، فعندما عاد إلى قسنطينة عرج على أخيه ورفيقه في الكفاح الأستاذ “محمد البشير الإبراهيمي”، وألقى إليه رغبته في الالتحاق بتلمسان ليكوّن به مركزا إشعاع الحركة الإصلاحية، والنهضة العلمية والأدبية في الغرب الجزائري كله.
فاستجاب الأستاذ “الإبراهيمي” لهذه الميزة التي خصه بها الأستاذ “ابن باديس” والتحق ـ دون إبطاء ـ بتلمسان وكان ذلك في أوائل سنة 1933م، فما إن نزل بها حتى احتفى به أهل تلمسان كبيرهم وصغيرهم يستفيدون من علمه وخبرته وإطلاعه، وشرع في أداء الرسالة التي جاء من أجلها، فنظم دروسا كثيرة يبدؤها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، وينهيها بدرس التفسير بعد صلاة العشاء، علاوة على محاضرات كان يلقيها على الشباب والطلبة في النوادي التي تأسست آنذاك، مثل (النادي الإسلامي، ونادي الشبيبة ونادي السعادة ونادي زقاق الرمان)، وفي مراكز جمعيات ثقافية، وفي أحواش وبساتين السكان التلمسانيين التي استحالت كلها مدارس ومجالس التجمعات لسماع دروس العلم والوعظ والإرشاد، وقد ضم إليه الشاعر الأديب الأستاذ “الهادي السنوسي” لمساعدته في تعليم الصغار بأحد هذه النوادي، ولما كان عمل الأستاذ “الإبراهيمي” قد أحدث – في مدة قصيرة – انقلابا مدهشا في العقيدة، وتطورا سريعا في العلم والأفكار، وكون أرضية صلبة وخصبة، وعقولا نيرة كان لا بد من إحداث مشروع يضم هذه الحركة المتسعة التي انبثقت عنها مسؤوليات جسام، اتفق الجميع على بناء مدرسة تضم شتات التلاميذ والتلميذات والشباب، ومسجد يأوي إليه كبار الناس لأداء شعائرهم، ولسماع دروس الوعظ والإرشاد.

اجتمع رجال العلم والإصلاح والبر وهيأوا أرضا تسع لبناء المسجد والمدرسة، وكلفوا المعماري ابن مدينة تلمسان “ابن قـلـفـاط” بتصميم المخططات ورسمها، وبعد إنجازها في ظرف قياسي هبت مدينة تلمسان بشبابها وشيوخها تساهم في إنجاز هذا المشروع المبارك…أربعمائة ألف فرنك أنفقت على تشييدها، عشرات الأيدي الجزائرية – بثمن وبدون ثمن – عملت فيها، وخلال سنة واحدة أكتمل بنائها على نسق هندسي أندلسي أصيل، لتكون بإذن الله مركز إشعاع ديني وعلمي وثقافي في أرض الجزائر الطاهرة.

افـتـتـاح دار الــحـديــــث

فــكّــر “الإبراهيمي” في إقامة احتفال كبير بمناسبة افتتاحها، فقام بدعوة علماء ووفود من المغرب وتونس، أما من الجزائر فقد حضر الاحتفال الألوف من أبنائها البررة، يتقدمهم كل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإداريين والعاملين والمؤيدين، وكذا العاملين بمعظم المؤسسات التعليمية التربوية والجمعيات الدينية والثقافية الجزائرية.

 حيث كان افتتاحها في يوم الاثنين 21 رجب 1356 هـ الموافق ليوم 27 سبتمبر 1937م، أي بعد سنة من الشروع في بنائها، وعندما تدخل من باب دار الحديث تواجهك لوحة رخامية مثبتة على الحائط تقرأ عليها ما يلي :

تأسست مدرسة دار الحديث على يد العلامة الفاضل الشيخ “محمد البشير
الإبراهيمي” بمساعـدة شعب تلمسان، وقد افتتحها صاحب الفضيلة الإمام “عبد الحميد ابن باديس” رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم الاثنين 21 رجب 1356 هـ الموافق ليوم 27 سبتمبر 1937م، وقد أسند شرف فتح المدرسة إلى الإمام عبد الحميد ابن باديس، الذي قام بقطع الشريط الحريري، وتقدم إلى الباب مع إخوانه العلماء، وأفاضل الأمة التلمسانية وعدد كبير من المعلمين والأساتذة والشعراء، وبجانب الباب وقف الأستاذ “الإبراهيمي” فسلم مفتاح المدرسة للشيخ الرئيس “ابن باديس” قائلا: “أخي الأستاذ الرئيس، لو علمت في العالم الإسلامي رجلا في مثل حالتك له يد على العلم مثل يديكم، وفضل على الناشئة نثب فضلكم، لأثرته دونكم بفتح هذه المدرسة، ولكني لم أجد…فـباسم تلمسان، وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أنا ولكم المفتاح، فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك…؟
تسلم الأستاذ ابن باديس المفتاح من يده قائلا: “بسم الله الرحمن الرحيم، ثم على اسم الإسلام والعروبة، والعلم والفضيلة أفتح دار مدرسة دار الحديث، {رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ} [المؤمنون:29] {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }) ( الإسراء: 80 – 81 )،
ثم يتقدم إلى الباب فيفتحه ويدخل، وتدخل معه الهيئة الإدارية لجمعية العلماء ثم تلتها الوفود والأساتذة والمعلمون، فانتشروا في رحابها وأقسامها والابتهاج والسرور يعلو محياهم وعندما وقف الأستاذ “عبد الحميد بن باديس” مع المجلس الإداري لجمعية العلماء على شرفة المدرسة وجه خطابه للجماهير المحتشدة المتعطشة لسماعه قائلا: “يا أبناء تلمسان، أبناء الجزائر إن العروبة من عهد الفتح إلى اليوم تحييكم، وأن الإسلام من يوم محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يحييكم، وأن أجيال الجزائر من هذا اليوم إلى يوم القيامة تشكركم وتذكر صنيعكم الجميل…يا أبناء تلمسان كانت عندكم أمانة بين تاريخنا المجيد فأدّيتموها فنعم الأمناء أنتم، فجزاكم الله جزاء الأمناء…والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته [2].

وتشتمل البناية على مسجد في الطابق الأرضي لإقامة الصلوات ودروس الوعظ والإرشاد، وعلى قاعة المحاضرات بمنصتها مع إدارة المدرسة التي تحمل قلب لبناية في الطابق الثاني، وعلى 06 أقسام ومخزن في الطابق الثالث. حل الضيوف الوافـدون من الشرق الجزائري والوسط والغرب في ديار الأكرمين من الأمة التلمسانية طيلة أيام إقامتهم، وقد دامت 03 أيام كلها أعراس وأفراح بلياليها، وأعياد لم تألفها الأمة التلمسانية إلا في العهود التاريخي الزاهرة، تتجلى دار الدار كعروس تختال في أبهتها وبهجتها وعظمتها، وبتلك البهجة والأبهة والعظمة انطلقت تبني وتؤلف الرجال والنساء، وتعلم العربية وتنشر الإسلام والفضيلة في عزة وكرامة، فكان الأستاذ الإبراهيمي المدير والموجه والمرشد بمساعدة الأستاذ (بن عودة بوعـياد) الذي عينه مدير إداريا فنيا.
وتعرضت مدرسة دار الحديث لكل ما تتعرض له مدارس جمعية العلماء من مضايقات واتهامات وإغلاق ومحاكمة، فأغلقت بأمر من رئيس الدائرة (السوبريفي) في سنة 1938م، لـقـد أثار قرار غلقها غضبا شعبيا عارما، وظلت مغلقة إلى أن أعيد فتحها بعد شهور قليلة، بفضل من الله وبفضل المساعي الحميدة التي قام بها الأستاذ “الإبراهيمي” والأمة التلمسانية والنواب المسلمون ودفاع جمعية العلماء الذي يتمثل في رئيسها الذي قدم احتجاجا تلو الآخر إلى الدوائر المسؤولة، ونشر في البصائر والشهاب فضائحهم ومكائدهم.
ونشبت الحرب العالمية الثانية فكان لا بد للمدرسة أن تتوقف، وخاصة عندما نفي الأستاذ الإبراهيمي في 04 أوت 1939م إلى آفلو الذي قضى في منفاه ثلاثة أعوام. ثم فتحت المدرسة بعد إطلاق سراح الأستاذ الإبراهيمي في سنة 1943م فاستأنفت نشاطها ولم تتوقف إلا في 29 ماي 1956م، حيث أغلقت من طرف السلطات الفرنسية وجيشها كبقية المدارس في الغرب الجزائري.
انضم فيما بعـد عدد كبير من تلاميذ دار الحديث إلى الثورة التحريرية، وكانوا من جنودها الأوفياء، وقّـعت أســماء العديد من الشهداء في ميادين البطولة والشرف خلال فترة الحرب التحريرية ضد المستدمر الفرنسي (1954 – 1962م) على لوحة رخامية في مدخل دار الحديث.

ع. أمـيـر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى