تكنولوجيا

كتاب “سيكولوجيا الإنسان المُرَقمن”

تسليط الضوء على بناء الهوية في عصر الثورة الرقمية

انتهى الدكتور “المصطفى شكدالي” من تأليف كتابه المعنون ب”سيكولوجيا الإنسان المُرَقمن – التنشئة الخوارزمية وبناء الهوية في عصر الثورة الرقمية – مقاربة سَيكو-سيبرانية”، حيث فضل اختتام مؤلفه بشرح مبسط لدوافع كتابته من خلال تركيزه على التحول النفسي للفرد البشري وهو ينجرف في عالم الثورة الرقمية الحاصلة، وكيف يحصل التأثير بينهما، ومن هو الأكثر تأثيرا.

وقد جاء في خاتمة كتابه: “وأنا على عتبة اختتام هذا الكتاب، أجدني أتبنى ضمير المتكلم في الحديث كما كان عليه الحال في تمهيده. الأمر هنا، لا يتعلق بذاتية مفرطة أو بتضخم في الأنا بقدر ما أرغب، فقط، في تبيان مدى تعلقي بموضوع التحولات الرقمية على مستويات متعددة ومتداخلة، خاصة فيما يتعلق بتأثير ما أسميته بالتحكمية الخوارزمية على مستوى الإدراك والأداء المعرفي- السيكولوجي.

لقد انطلقت في صياغة هذا الكتاب من زاوية المقاربة السيكو-سيبرانية Cyber-Psychologie، وهي المقاربة التي نشأت حديثا مع تطور استعمالات الفضاء السيبراني وما أصبحت تفرزه من تصرفات وظواهر نفسية-اجتماعية غير مسبوقة في تاريخ الانسان.

وهنا لابد أن أشير إلى أن علم النفس السيبراني هو أحدث فرع من فروع علم النفس، حيث يهتم بدراسة الكيفية التي تؤثر بها التكنولوجيا الرقمية على الفرد وما يصاحب ذلك من تغيرات في سلوكه وتصرفاته من فرط الإبحار في الفضاء السيبراني.

وتجدر الإشارة إلى أن علم النفس السيبراني، رغم أهميته لمواكبة التحول الذي يعرفه الإنسان منذ بداية عصر الرقمنة، لا يحظى إلى حدود الساعة بالمكانة التي يستحق داخل الأوساط الجامعية، وذلك نظرا لغيابه ولعدم برمجته في التكوين الأكاديمي، كما جاء عند الباحث خوان مويسيس دي لا سيرنا Juan Moisés De la Serna 2017 وهكذا، تبنيت هذه المقاربة متسائلا عن أثر الاستعمالات الرقمية فيما يخص التنشئة الخوارزمية التي تتم داخل الفضاء السيبراني، وبالتالي كيف تتشكل هوية الأفراد والجماعات داخل هذا الفضاء؟ وهنا، أتساءل مع نفسي بصوت مسموع: هل وفقت في ذلك من خلال ما جاء في هذا الكتاب؟ لا أخفي القارئ سرا، بأنني لست مقتنعا بكل ما جاء على صفحات هذا الكتاب، وذلك لسبب بسيط مرده إلى أن الكتابة في موضوع التحولات التي جاءت بها الرقمنة على مستوى السلوك البشري أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر والانزلاقات الإبستمولوجية.

إن الموضوع الذي حاولت مقاربته هو موضوع في طور التشكل لا ينتهي من مرحلة حتى يدخل في مرحلة أخرى، نظرا للانتقالات المسرعة التي تميز التكنولوجيا الرقمية.

مُساءلة كل قضايا الفرد والمجتمع على المنصات الرقمية بطريقة عرضانية

لقد تفطنت منذ البداية الأولى، قبل الخوض في الكتابة، أنني إزاء موضوع يعتبر “مِحلالاً” Analyseur يُسائِل كل قضايا الفرد والمجتمع على المنصات الرقمية بطريقة عرضانية.

غير أن دوري كمحلل قد لا يرتقي إلى دور “المِحْلال”، الذي يبوح خفية بالكثير من التساؤلات والقراءات التي كنت ربما عاجزا عن إدراكها، هذا ليس جلدا للذات أو تواضع زائف، وإنما هو شعور صادق أوجهه إلى القارئ المحتمل لهذا الكتاب.

فقد يُغريه هذا الاعتراف الصريح بمحاولة الخوض من جديد في دراسة ما أنتجته التكنولوجيا الرقمية على مستوى السلوك البشري، ورغم اعترافي بعدم الرضا الكامل بما أنجزته في هذا الكتاب، فإنني أعتقد بأنني تناولت قضايا مهمة كمفهوم التنشئة الخوارزمية، هذه الأخيرة التي يلعب فيها الجانب التكنولوجي الدور الحاسم في التأثير على السيبرانيين المنشئين وفقا لتصورتها المُبَطنة من خلال خاصياتها وبرمجياتها المُوَجِهة للسلوك البشري.

ولم يكن بإمكاني الوصول إلى هذا التعريف لولا محاولة تحديدي لمفهوم “التحكمية الخوارزمية” التي تستعمل بياناتها الضخمة للتحكم في أغلب ما ينشر على المرقاب الرقمي من ممارسات وتصرفات رقمية تحمل الكثير من الدلالات النفسية-الاجتماعية.

كما أنني استخلصت فكرة أساسية مما سبق ذكره مفادها، أنه على النقيض مما يتوهم معظم رواد التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي في كونهم يستعملون المنصات الرقمية، بينما أن هذه الأخيرة هي من تقوم بذلك في غفلة منهم. إن التحكمية الخوارزمية أدت بالكثير من رواد المنصات الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي إلى الإدمان السيبراني، نظرا لما تمارسه من تأثير واضح على وظائف الدماغ وتوجيه التفكير وجعل السيبرانيين دائما متاحين لممارسة طقوسهم الرقمية.

التقصي والبحث والتحليل إلى مفهوم آخر وُلِد من رحم الممارسات الرقمية

لقد قادتني خطواتي في التقصي والبحت والتحليل إلى مفهوم آخر وُلِد من رحم الممارسات الرقمية، وهو ما بات يسمى اليوم بالهوية الرقمية.

وتفصيلا في هذا المفهوم التجأت إلى ما كُتِب في هذا الموضوع ليتضح لي أن الهوية الرقمية تأخذ ثلاثة أبعاد أساسية بين الهوية المصرح بها والهوية النشيطة والهوية المحسوبة عن طريق الخوارزميات الرقمية، غير أن اعتمادي على الملاحظة النتنوغرافية جعلتني أتوجه نحو الكشف عن ملامح أخرى للهوية الرقمية والتي أعتقد أنها على قدر كبير من الأهمية.

إن جل البروفيلات التي تابعتها “نتنوغرافيا” كانت لا تستقر على حال وهي تقدم ذاتها سواء عن طريق المنشورات المكتوبة أو صور السلفي أو مقاطع من الفيديو، إلى درجة أنني أطلقت عليها توصيف الهوية الرقمية المتحورة.  وبالإضافة إلى عملية التثمين النرجسي الذي طغى على تقديم الذات، اكتشفت أن الخوارزميات بآليتها تتيح للسيبرانيين إعادة خلق ذواتهم في شكل جديد عن طريق استعمال التطبيقات المندمجة في المنصات الرقمية، خاصة ما يعرف بالصور “المفلترة”، كأنما الأمر يتعلق بترميم سيكولوجي للذات الرقمية التي أصبحت تطمح إلى الظهور بهيئة لائقة، وهو الشيء الذي أطلقت عليه الجراحة التجميلية الرقمية، والتي من خلالها يحاول السيبراني تعديل صورته انطلاقا من إدراكه لها في الواقع اليومي وتعويضها بصورة أخرى موجهة إلى حياته الموازية في عالم السيبرانية.

وبهذه العملية، أدركت أن الصراع النفسي الذي يحصل في الحياة الواقعية بين الأنا المثالي والأنا الواقعي أصبح يتمظهر من خلال عمليتي إعادة خلق الذات رقميا وما هي عليه في الواقع اليومي. كأنما ترميم الذات من خلال خوارزميات الرقمنة يحمل خطابا مستترا مضمونه: ” هكذا أريد أن كون…”. إلا أن الواقع في الغالب ما يعيد السيبرانيين إلى ما هم عليه في الحياة اليومية. وبذلك، تكون شاشات المنصات الرقمية مجالا لاستعراض ما سميته بالأنا الرقمي المثالي.

عملية تقديم الذات على مرقاب الرقمنة

ومن القضايا التي استرعت انتباهي في عملية تقديم الذات على مرقاب الرقمنة، هذا الكم الهائل من البوح بالحميمية والكشف عن دواخل المنخرط في السيبرانية إلى درجة أن الأحاسيس الداخلية والاستيهامات والتخيلات قد رُفع عنها ستارُ التكتم لتتحول إلى الظهور المفرط على شاشات المواقع الرقمية.

وهو الشيء الذي أفضى بي إلى الاعتقاد أن مفهوم الأنا الأعلى، كما جاء في التحليل النفسي، كمفهوم يسود فيه التحفظ باسم الأخلاق والقيم الاجتماعية، أصبح دوره يتقلص لصالح البوح بالحميمية والشهوانية والغرائزية على الشاشات الرقمية.

قد أكون مُخطئاً في هذا الاعتقاد، إلا أن الكثير مما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، كفايسبوك وانستغرام وتيك توك وغيرها، من مظاهر البوح بالحميمية والغرائزية يؤكد ذلك. مما جعلني أتساءل من جديد في إحالة على التحليل النفسي عند سيغموند فرويد، الذي جاء في نظريته أن الأحلام انعكاس لـ”رغبات العقل اللاواعي” للشخص الحالم. وعلى منوال هذا القول، أتساءل وأوجه السؤال في نفس الوقت إلى القارئ: هل يمكن توصف السيبرانية بمثابة انعكاس لرغبات لم تتحقق في الحياة الواقعية للسيبراني؟ فإذا كان الحلم يعكس رغبات العقل اللاواعي لصاحبه، ففي حالة السيبراني يتم انعكاسها للآخرين بكل وضوح وبشكل صريح.

قضايا أخرى رائجة من خلال الوسائط الرقمية

وعلاوة على ذلك، تساءلت كثيرا بخصوص قضايا أخرى رائجة من خلال الوسائط الرقمية، وهي تلك المتعلقة بانتحال صفة وتقديم الذات في جبة المختص، سواء في أمور الدين أو التطبيب أو الإرشاد النفسي أو الإعلام وغيرها، دون معرفة أو تكوين في هذه التخصصات. وهو ما جعل هذه الممارسات الرقمية تحتل حيزا كبيرا على القنوات السيبرانية إلى درجة الانتشار الواسع للدجل والتدجيل والأخبار الزائفة وفق شروط التحكمية الخوارزمية التي تستهدف الحشود المرقمنة بتضخيم محتوياتها ومضامينها.

وذلك لسبب بسيط يتعلق بمنطق الاستهلاك والتسويق، فكلما ارتفع عدد المتابعين لهذه الممارسات كلما ارتفعت القيمة الإشهارية للقنوات المحتضنة لهذا النوع من تقديم الذات عن طريق انتحال صفة. وتبعا لذلك، لاحظت أن المحتويات الأكثر متابعة في الفضاء السيبراني تحوم كلها حول الفضائح والأخبار الزائفة والدجل، لأنها هي الوحيدة القادرة على تجيش السيبرانيين واقتياد الحشود منهم للمتابعة بكثافة.

وللبيانات الخوارزمية الضخمة يد في ذلك، لأنها على بينة من القضايا التي تستهوي عامة الناس. ولابد من التذكير، كذلك، بأن خطواتي في هذا الكتاب قادتني باتجاه التساؤل حول الثقافي والطقوسي وكيف تحولت رمزيته ودلالاته بفعل الممارسات الرقمية. ولعل الطقوس الجنائزية المرافقة للموت هي المثال الصارخ بهذا الصدد، حيث خرجت هذه الطقوس من إطارها الاجتماعي المتسم بالحزن والشعائر الدينة في تكتم وتأمل، لتتحول إلى طقوس مرئية على مرقاب الفضاء السيبراني في شكل “فرجة” طلبا للمزيد من متابعة السيبرانيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى