الثـقــافــة

“الجزائر لم تفقد لسانها العربي “

الكاتب والباحث الجزائري مهدي برّاشد، يؤكد:

يتناول الكاتب الصحفي الجزائري مهدي برّاشد المسألة اللغوية في الجزائر بطريقته الخاصة، بعيدا عن الجدل السياسي المكرر الذي رافقها منذ سنين طويلة.

براشد، كاتب صحفي وباحث في الثقافة الشعبية الجزائرية، من مواليد مدينة الجزائر العاصمة، صدر له “معجم العامية الدزيرية، بلسان جزائري مبين”، “والدزيرية” هي “الجزائرية” كما ينطقها أهلها تؤكد أن اللغة المحكية لأهل الجزائر العاصمة “عربية صرفة”..

 ماذا عن الأصل الأمازيغي لسكانها؟

يؤكد الباحث مهدي براشد أنه يجب الانتباه إلى أن عهد الجزائريين بالعربية عمره -على الأقل- من عمر وصول الإسلام إلى المغرب العربي، أي نحو 15 قرنا. ويجب الانتباه إلى أن رأس الممارسة الدينية في الإسلام (الصلاة) تتم بالعربية، وكذا قراءة القرآن والأذكار والأدعية، على خلاف الديانات الأخرى. وإذا كانت اللاتينية والعبرية (إلى عهد قريب) لغات ميتة لأنها انحصرت في الدين، فإن حظ العربية في البقاء والانتشار كان لارتباطها بالدين. السكان الأصليون للجزائر والمغرب العربي عموما، كما الأقوام الأخرى، تنطبق عليهم مقولة (الناس على دين ملوكهم)، وقد كانوا يعتبرون العربية هي اللغة الرسمية فاجتهدوا في تعلمها.  بحيث يردد البعض أن (الجزائر أمازيغية عرّبها الإسلام)، لماذا حدث فيها ما لم يحدث في مناطق أخرى مثل بلاد الفرس والترك التي أسلمت وحافظت على لغاتها الأصلية في الوقت نفسه. لا يمكن مقارنة تأثير اللغة العربية في بلاد فارس (هذه الإمبراطورية التي لم تعرف الاستعمار) بتأثير العربية في بلاد لم يخرج الاستعمار منها إلا باستعمار جديد، الفينيقيون والرومان والوندال والبيزنطيون، وحتى العدوان الإسباني صده العثمانيون. الفرس إمبراطورية علاقتها بلغتها لم تتأثر، وحين وصلتها الفتوحات الإسلامية فضّل الكثيرون في البداية دفع الجزية على الدخول في الإسلام، ناهيك عن علاقتهم الوطيدة بالتدوين. الجزائر دولة تداولت عليها اللغات الرسمية، وطبيعي ألا يحافظ سكانها على لغتهم الأم، ناهيك عن قلة التدوين بهذه اللغة.

 هل أهل مدينة الجزائر “اقترضوا” من الفرنسية؟

يستطرد الكاتب مهدي براشد قائلا في هذه المسألة:” صحيح، وأعتقد أن الأمر له علاقة بتضييع مجتمع مدينة الجزائر للغته الأم التي كان يتحكم فيها جيدا في الماضي ويطوع لها ما يقترضه. إذا كان تفسير اللغويين القدامى للآية “وعلم آدم الأسماء كلها” أن الله أعطاه القدرة على الكلام وتسمية المسميات، أعتقد أن سكان مدينة الجزائر فقدوا القدرة على الكلام بلغتهم ويتجهون يوما بعد يوم إلى لغة أخرى لا على سبيل الاقتراض بل على سبيل الاكتساب المطلق لها. وحتى هذه اللغة لا يحسنونها لأنهم لا يحيون الثقافة التي أنتجتها.

كيف ترسخت فكرة إن الجزائر العاصمة “لسانها فرنسي”؟

يؤكد الباحث مهدي براشد قائلا:” لم أسمع في طفولتي يوما في محيطي العائلي استعمالهم للقاموس الفرنسي إلا ما تعلق بأشياء لا معادل لفظي لها في لهجتنا. وأنت تقرأ المعجم ستكتشف أن اللفظة الفرنسية تأتي في آخر الترتيب بعد العربية والأمازيغية والتركية والفارسية والإسبانية والإيطالية واليونانية والمالطية. أتحدى أيا كان أن يحقق أن لسان مدينة الجزائر إلى غاية سبعينات القرن الماضي كانت تحتوي على 10  بالمائة على أكثر تقدير من الألفاظ الفرنسية، وحتى الألفاظ التي نعتقد أنها فرنسية إنما هي ألفاظ إسبانية أو إيطالية أو يونانية. حتى الذين يقولون بأكذوبة (اللغة الفرانكا) لا يستطيعون أن يأتوا بدليل واحد على أن هذه اللغة تجاوزت حدود الميناء إلى داخل المدينة. بدليل أن شعراء شعبيين من مدينة الجزائر على ما نعرف عن هؤلاء من ارتباطهم بلغة المتلقي في نظمهم، لا نجد في قصائدهم ألفاظا من هذه اللغة المفترضة، وأحسن مثال على ذلك الشيخ محمد بن إسماعيل، وهو شاعر له قصائد كثيرة في مدح الأولياء الصالحين، وعلى رأسهم الولي الصالح الذي تنسب الجزائر العاصمة إليه سيدي عبد الرحمن الثعالبي وشارك في التحالف العثماني الفرنسي البريطاني والإيطالي ضد الإمبراطورية الروسية في حرب القرم (1853-1858)، ولا نجد لفظة واحدة من هذه اللغة الفرانكا. الشاعر العالم مصطفى بن محمد الكبابطي، أيضا عمل مدرّسا في مساجد الجزائر (العاصمة)، ثم تولى التدريس في الجامع الأعظم (1824)، ثم ولاه الداي حسين باشا القضاء على المذهب المالكي (1827)، ناهض الاحتلال من خلال معارضته ضم الأوقاف الإسلامية إلى أملاك الدولة الفرنسية، ونضاله للإبقاء على تعلم القرآن الكريم، وإصداره فتوى تحرم الهجرة هروبًا من الاحتلال، فسجن ثم نفي إلى الإسكندرية. ولن نجد في شعره لفظة من قاموس اللغة الفرانكا. أعتقد أن الأمر، في هذه اللغة الأكذوبة يتعلق بمسألة اقتراض لا أكثر. العاصمة لم “تُفَرْنَس” أيام الاستعمار الفرنسي الذي عجز على مدى 132 سنة عن إدخال لغته إلى البيت الجزائري والحي الجزائري، فيما استطاع الاستقلال أن يفعل ذلك وببراعة في أقل من خمسين سنة.

هل مدينة الجزائر مستهلكة للحضارة أكثر منها منتجة؟

في هذا السياق، يقول الكاتب مهدي براشد:” هذا ليس حكرا على مدينة الجزائر، طبيعة المدن الحواضر هي هكذا.. وعاء للتراكم المعرفي والإبداعي، لكن الفضل لها في هذه القدرة على التجنيس بين كل ما تدفق عليها وصقله أيضا. يجب الانتباه إلى أمر هام. ما تطعمت به لهجة سكان مدينة الجزائر من قاموس فارسي أو تركي، وحتى من الإسبانية والإيطالية واليونانية لم يأت في البواخر سلعة من السلع، إنما هو وليد استقرار الأتراك واحتكاك أجناس أخرى بأهل مدينة الجزائر التي كانت مركزا تصب فيه حركة النشاط البحري، خاصة القرصنة. ومع ذلك فتعاطي أهل مدينة الجزائر مع ما هو تركي كان تعاطيا متميزا يختلف عن تعاطي مدن وحواضر الشرق العربي في القاهرة أو حواضر الشام. تعاطي أهل مدينة الجزائر مع الأتراك كان معشقا بثقافة أندلسية جلبها الموريسكيون معهم ابتداء من القرن الخامس عشر. أما عن القصائد، فيجب ألا ننسى أن الشعر لم يكن مزدهرا في كل الحواضر التي بسط فيها الأتراك نفوذهم. ازدهار الشعر ارتبط بعطاءات الخلفاء والولاة لدى خلفاء الدولة الأموية والعباسية لأنهم عرب يتذوقون الشعر. المغرب الأقصى لم يعرف نفوذ الدولة العثمانية، وملوكه وأمراؤه كانوا ممن يتذوقون الشعر، بطبيعة الحال ازدهرت الحركة الشعرية عندهم. ولا ننسى أنهم أكثر تأثرا من الجزائريين بما كان مزدهرا من شعر وموسيقى في الأندلس. لكن يجب الإشارة إلى أن مدينة الجزائر لم تستورد ديوان غنائها من المغرب الأقصى فقط، بل جاءت به من مدن جزائرية مثل تلمسان ومستغانم ومدن أخرى من الغرب الجزائري. أيقونة الغناء الشعبي في مدينة الجزائر في بدايات الربع الأول من القرن العشرين “الحاج امحمد العنقى” غنى لقدور بن عاشور من تلمسان ولخضر بن خلوف من مستغانم. كما أن مدينة الجزائر أنجبت شعراء فحول مثل العالم مصطفى الكبابطي (1775 – 1860) الذي نفاه الاستعمار الفرنسي إلى مصر ومحمد بن اسماعيل (1820- 1870) الذي غنى له الحاج امحمد العنقى قصيدته الرائعة “الفراق”، والشيخ بن عمر الملقب بـ”الحدبي” توفي في حدود 1898 وهو صاحب قصيدة رائعة لا زال فنانو المغرب الأقصى يغنونها إلى اليوم وهي “ثلاثة زهوة ومراحة”. أما الحديث عن كون أيقونة الغناء الشعبي لمدينة الجزائر الحاج امحمد العنقى كان وافدا على المدينة وليس منها، فهذا أمر فيه بعض التجاوز، صحيح أن البعض يقول إن العنقى لم يولد بحي القصبة وإنما جاء به والداه وهو رضيع في القماط، إلا أن المعروف أن مدينة الجزائر (القصبة) كانت تتشكل في ثلاثة أرباعها من منطقة “أزفون” (150 كلم شرق العاصمة) بفضل الخط البحري الذي كان يربط مينائي المنطقتين. الحاج امحمد العنقى استطاع أن يجمع بشكل رائع بين قصائد شعراء المغرب الأقصى والموسيقى الأندلسية ونفحاتها الموريسكية مع طابع “الأشويق” الأمازيغية وببصمات تركية.

 كيف بقي بعض من اللغة التركية واضحا في اللسان الجزائري ؟

في هذا الموضوع يتحدث الباحث مهدي براشد قائلا:” في كتاب (ما تبقى من الفارسية والتركية في المنطوق العربي الجزائري)، أورد الدكتور العلامة محمد بن شنب ألفاظا ذات أصل فارسي وتركي، وهي تتعلق بما جلبه الأتراك من وسائل المدنية. وفي كتاب (ما تبقى من الفارسية والتركية في المنطوق العربي الجزائري)، أورد الدكتور العلامة محمد بن شنب ألفاظا ذات أصل فارسي وتركي، والذي يتمعن في الألفاظ يجد أنها ألفاظ لأشياء تتعلق بما جلبه الأتراك من وسائل المدنية كالأواني والأسلحة وما شاكل ذلك، وقد بقيت هذه الألفاظ لأن مسمياتها بقيت إلى وقت قريب، ولكنها آيلة للزوال باختفاء هذه الأشياء عن الحياة اليومية للجزائريين، فقليلون هم اليوم من يعرفون (الفرناق) وهو موقد الحطب الذي يسخن به ماء الحمامات التركية، وقليلون هم من يعرفون (المبزن) وهو حوض الحمام. أما بالنسبة إلى الألفاظ ذات الأصل الفارسي، فقد وصلت الجزائريين عن طريق التركية. لكن يجب الانتباه إلى أن هناك ألفاظا أوردها بن شنب على أنها تركية أو فارسية، لكنها في الحقيقة هي عربية الأصل، وألفاظ فارسية لكن الجزائريين أخذوها عن العربية.

 وماذا عن “تقديس البلاغة” والتلاعب بالكلمات ؟

يجزم الكاتب مهدي براشد بالقول:” بالعكس، التزويق والتنميق والتسابق فيه من شيم الحواضر، وهو في اعتقادي من تأثير الموريسكيين. كما أن أهل مدينة الجزائر جعلوا من القصائد المغناة مثالا لغويا يحتذى، كلما اقتربوا منه كانوا بلغاء”.

قراءة: أحمد الشامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى