
غزت الرقمنة كل مجالات الحياة البشرية، وأصبحنا نعيش في عالم الديجيتال رغما عنا، فاخترقت الوسائط الالكترونية يومياتنا وصارت كل حاجياتنا ومآربنا تسير في إطار هذه الرقمنة. ولم يكن الأدب بمعزل عن هذه المتغيرات، فظهر مسمى الأدب الرقمي بخصائصه الجديدة، وبكل أنواعه التي من بينها المسرح الرقمي.
ظهرت المسرحية الرقمية التي توظف معطيات التقنية الجديدة المتمثلة في الوسائط الرقمية المتعددة في إنتاج أو تشكيل الخطاب المسرحي، وهي نمط جديد من الكتابة الأدبية، تتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الذي يتمحور حول الإبداع الواحد، إذ يشترك في تقديمه دعى المتلقي أيضا للمشاركة فيه، وعدة كتاب، كما قد ي هو مثال للعمل الجماعي المنتج، الذي يتخطى حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعية. وسنركز على المسرح الجزائري وهل استطاع أن يخوض تجربة المسرح الرقمي ويستثمر هذه التكنولوجيا لصالحه؟ وسنتخذ من تجربة المسرح الجهوي لقسنطينة “الطاهر الفرقاني” نموذجا، فهل استطاع أن يدخل مجال المسرح الرقمي التفاعلي ويضع لبنة البداية أم ليس بعد؟
تمت رقمنة أكثر من 40 عملا مسرحيا من إنتاج المسرح الجهوي محمد الطاهر الفرقاني لقسنطينة وذلك في إطار المحافظة على التراث الثقافي وإنشاء أرشيف رقمي فني، بحيث أن “هذه المسرحيات الأربعين تشكل أول حصة من أصل 76 عملا مبرمج رقمنته”، لافتا الى أن صورا وملصقات ولقطات وفيديوهات ودعائم أخرى ذات الصلة بالإنتاج المسرحي قد تم رقمنتها أيضا لتتبع محتوى الإبداعات الفنية للمسرح. نشير في هذا الخصوص، إلى أن هذه العملية ترمي إلى إعادة إحياء بعض المسرحيات التي لم يتم تصويرها والتي لا يتوفر المسرح عليها إلا من خلال بعض العناصر مثل الأرشيف، حيث أن المسرح باعتباره مؤسسة ثقافية تعمل على جمع كل مادة، صور مشاهد، ملصقات، تذاكر المسرح ومخطوطات من أجل رقمنتها، وعليه فقد تم إنشاء فريق شاب من بين تقنيي المسرح مدعوما بالتجهيزات اللازمة يبذل جهودا من أجل إحياء جزء من تاريخ الإبداع في مسرح قسنطينة تكريما لأولئك الذين خلدوا تقدم الفن الرابع في هذه المدين”. كما هناك أشواطا كبيرة قد تم تجسيدها ضمن عملية رقمنة تسيير المسرح الجهوي لقسنطينة التي استهلت مع توقف النشاط الثقافي الذي فرضته انعكاسات جائحة كوفيد-19 وهو المجهود الذي توج برقمنة مختلف مصالح هذه المؤسسة الثقافية. كما أن هذا المسعى يندرج ضمن رقمنة قطاع الثقافة والفنون الذي بادرت إليه الوزارة الوصية، أردف قائلا بأن العملية ترمي إلى تسهيل الاتصال بمختلف الشركاء والتقرب من المواطن والجمهور والفنانين، وأنه تم في هذا الإطار اعتماد نظام للتذاكر الإلكترونية يمكن للجمهور من خلاله اقتناء تذكرة المقعد لمشاهدة العروض عبر الإنترنت. يذكر أيضا بأن الموقع الإلكتروني للمسرح الجهوي محمد الطاهر الفرقاني وصفحاته الرسمية على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي يتضمن مختلف النشاطات الفنية التي يقوم بها المسرح وكذلك الأحداث التي تنظم في إطار مختلف المناسبات، حيث تشكل رابطا دائما مع الجمهور والذي يسهر المسرح على الإبقاء عليه. كما أن رقمنة تسيير المسرح الجهوي لقسنطينة يسمح أيضا لهذه المؤسسة خارج برامجها الموجهة للجمهور العريض التي تندرج ضمن الخدمة العمومية بإقتراح خدمات لفائدة مختلف الشركاء، مبرزا بأن المسرح مؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري وأن مردوديته تعد عنصرا أساسيا من أجل تنميته. وفي هذا الصدد، فإن المسرح الجهوي لقسنطينة بإمكانه أن يضع تحت تصرف شركائه على سبيل الإيجار مختلف فضاءاته على غرار قاعة العروض والقاعة الشرفية وقاعات البروفات إلى جانب خبرته بتقديم خدمات مثل إضاءة المسرح وبث الصوت والعروض الفنية.
الدعوة للإسراع في توظيف الرقمنة بالمسرح الجزائري
تم منذ أكثر من سنة (أقريل 2022) تنظيم الملتقى الدولي الموسوم بـ ” المسرح الرقمي النص والعرض المسرحي من الواقع إلى الافتراضي، الذي احتضنه مسرح بسكرة الجهوي شباح المكي، حيث دعا المشاركون في ختام الفعاليات إلى ضرورة الإسراع في توظيف الرقمنة في المسرح الجزائري، لجعله مواكبا للتحولات المتسارعة في المجتمع، والسير به قدما إلى مسرحٍ رقمي مؤسس. فيما أبرز أكاديميون جزائريون وعرب شاركوا في هذه التظاهرة العلمية والثقافية تحت رعاية وزارة الثقافة والفنون، ومن تنظم مسرح بسكرة الجهوي وأكاديمية العلوم والدراسات الاستشرافية، بالتنسيق مع مخبر أبحاث في اللغة والأدب الجزائري جامعة بسكرة، إلى أهمية عقد شراكات بين مخابر البحث الجامعية على مختلف تخصصاتها للمساهمة في تفعيل المشهد الثقافي في المسرح الجهوي بسكرة. ودعا في هذا الصدد مدير المسرح الجهوي شباح المكي، السيد أحمد خوصة، في بيان على تثبيت الملتقى الدولي للمسرح، ليكون تنظيمه بشكل سنوي موافقا لليوم العالمي للمسرح، بالتنسيق بين أكاديمية العلوم والدراسات الاستشرافية والمسرح الجهوي بسكرة، إضافة إلى التشديد على توثيق أشغال الطبعة الأولى للملتقى الدولي بجمع كل المداخلات المشاركة في كتاب خاص، كما قرّر المشاركون في الملتقى تكريس فكرة الاعتراف بين أجيال المسرح باقتراح تكريم شخصية مسرحية محلية أو وطنية في كل طبعة، على أن تكون النسخة الثانية للملتقى الدولي تحت عنوان “المسرح وصناعة الوعي بالانتماء”. ومن جهتها البروفيسور نعيمة سعدية رئيسة أكاديمية العلوم والدراسات الاستشرافية، أكدت على نجاح التظاهرة بعد أن حققت أهدافها المتمثلة في التعريف بالبعد الرقمي لفن المسرح والانفتاح على تقنيات التجريب المسرحي التفاعلي، إضافة إلى تفعيل مبدأ ما بعد الورقي في أدب المسرح وتقريب التقني، مع توسيع دائرة الوعي بالفعل المسرحي، بتوسّل تقنيات وسائط التواصل الاجتماعي وتحقيق التشارك العلمي بين النخبة الجامعية والنخبة الثقافية، ثم تبادل الخبرات الجزائرية والعربية الدولية في هذا الشأن لتطوير المسرح الوطني الجزائري.
التوثيق والأرشفة في المسرح الجزائري
على اعتبار أنّ الوثيقة سلاح خطير أولاً ضد النسيان، وثانيا ضد كيد الزمان، فقد سبق وأن أكد الدكتور محمد بوكراس (ناقد مسرحي وأكاديمي) عددا من منتدى المسرح الوطني الجزائري (TNA Forum) واسما موضوعه بـ “التوثيق والأرشفة في المسرح الجزائري”، مستهلا تدخله بتساؤلات: عن مدى الوعي الوثائقي الذي بلغته مؤسساتنا الثقافية والمسرحية تحديدا؟ وماهي تحديات حفظ وأرشفة الإرث المسرحي وحمايته من الضياع؟ وهل استفدنا ممّا توفّره لنا التكنولوجيات الرقمية؟ من هذه التساؤلات جاء مبنى المنتدى، وجاءت دعوته لرفع التحدي في حفظ وأرشفة الإرث المسرحي وحمايته من الضياع بتوظيف تكنولوجيا الرّقمنة بمساهمة المؤسسات المسرحية في عمليات الجمع والتخزين والاسترجاع وفق مقاييس علمية، كما أشار في ذلك إلى الثلة القليلة من المسرحيين الذين وثّقوا للمسرح الجزائري انطلاقا من تجاربهم الشخصية، على رأسهم “محي الدين بشطارزي” في مؤلف من ثلاث أجراء، وعلالو، ومحمد الطاهر فضلاء، أو أولئك الذين تم الاشتغال على تجربتهم مثل ما كتبت الدكتورة “جميلة مصطفى الزقاي” عن صونيا مثلا… منبها إلى الجهود الجامعية والأكاديمية وما مدى مساهمتها في ردم هذه الهوة الأرشيفية، من خلال الاشتغال على نصوص أو عروض أو تجارب مسرحية، سواء في قسم الفنون بوهران، مشيدا في ذلك بمخبر الأرشفة بقسم الفنون بوهران أو في غيره من أقسام الفنون على المستوى الوطن. وقد نبّه منشط العدد إلى تجارب مازالت في مناطق الظل يمكن أن الاستعانة بها بالأرشيف الشخصي الذي يكتنزه الأشخاص، إلى دعوة الفنانين وصنّاع الفعل المسرحي لمثل من الفرق والتعاونيات الحرّة التي أفنت العمر وخاطرت في زمن الموت، حيث أشاد بجهود بعض الإعلاميين الذي اشتغلوا على التوثيق للمشهد المسرحي، على غرار بوعلام رمضاني، بن ديمراد، محمد كالي، بوزيان بن عاشور، علاوة جروة، أحمد بيوض، والجيل الجديد من الإعلاميين الذي رافقوا مختلف المهرجانات سواء على صفحات الجرائد التي يشتغلون عليها أو على مستوى نشرات اليومية للمهرجان المحترف أو المهرجان الدولي أو المهرجان الامازيغي أو المهرجان الفكاهي أو المهرجان الهواة، وكذا جهود المصورين الذي اشتغلوا على الصورة المسرحية بدءا بالمعلم علي حفياد، مجيد منصوري، عزيز لشلح، فضيل حدهوم، رضوان خليل الشرفي وغيرهم… بمساهمتهم في حفظ الذاكرة المسرحية من خلال الإمساك باللقطة المسرحية وتخليدها عبر الوسيط الرقمي.
حياة ميرهان