تكنولوجيا

هل نحن على أعتاب أزمة طاقة عالمية جديدة؟

منذ فجر الثورة الصناعية، شكلت الطاقة عصب التقدم البشري ومحركه الأساسي. واليوم، نقف على أعتاب ثورة جديدة لا تقل تأثيرا، هي ثورة الذكاء الاصطناعي، التي تعد بإعادة تشكيل كل مناحي حياتنا. لكن وراء هذا الوهج التقني المبهر، يلوح في الأفق ظل مقلق: استهلاك طاقي هائل قد يدفع بالعالم نحو أزمات غير مسبوقة. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد خوارزميات بريئة تعمل في الخلفية، بل تحول إلى عملاق جائع للكهرباء، يهدد بابتلاع المكاسب البيئية واختبار قدرة شبكاتنا الكهربائية على التحمل. هذه الأزمة المتعددة الأوجه ليست مجرد تهديد مستقبلي، بل هي حاضرة بيننا، وتتطلب فهماعميقا لطبيعتها وأبعادها واستراتيجيات مواجهتها.

 

جذور الأزمة..  لماذا يستهلك الذكاء الاصطناعي كل هذه الطاقة؟

لفهم حجم المشكلة، يجب أولا تفكيك أسباب هذا الاستهلاك الطاقي الهائل. لا تشبه نماذج الذكاء الاصطناعي، وخاصة النماذج الكبيرة مثل GPT-4 وClaude، البرمجيات التقليدية. تعتمد هذه النماذج على بنية معقدة تسمى “المحولات” (Transformers)، وتنقسم عملية عملها إلى مرحلتين رئيسيتين، كلتاهما تستهلك كميات فلكية من الطاقة:

 

1ـ مرحلة التدريب

هي المرحلة الأكثر استهلاكا للطاقة على الإطلاق. هنا، يتم “تغذية” النموذج بكميات هائلة من البيانات (نصوص، صور، مقاطع فيديو) من جميع أنحاء الإنترنت. تقوم آلاف من وحدات معالجة الرسومات (GPUs) المتخصصة، العاملة في مراكز بيانات ضخمة، بإجراء تريليونات العمليات الحسابية للعثور على الأنماط والعلاقات داخل هذه البيانات.

تشبه هذه العملية تعليم طفل بشرى من خلال قراءة كل كتاب في مكتبة الكونغرس عشرات المرات. وتشير التقديرات إلى أن تدريب نموذج كبير واحد يمكن أن يستهلك طاقة تكفي لتشغيل مئات المنازل لسنوات، مع انبعاثات كربونية تعادل رحلة خمس سيارات طوال دورة حياتها.

 

2ـمرحلة الاستدلال

هذه هي المرحلة التي نتفاعلفيها مع الذكاء الاصطناعي يوميا، مثل عندما نطلب من “ChatGPT” كتابة مقال أو توليد صورة. وراء كل استعلام بسيط، تقوم أعداد هائلة من الخوادم بعمليات حسابية معقدة لتوليد الإجابة. على الرغم من أن استهلاك الطاقة لكل استعلام فردي منخفض نسبيا (قد يصل إلى بضعة واط/ساعة)، فإن الضرب في مليارات الاستعلامات اليومية من مليارات المستخدمين حول العالم يحول هذا الاستهلاك “الفردي” إلى طلب هائل ومستمر على الشبكة الكهربائية. مع انتشار الذكاء الاصطناعي في كل شيء، من السيارات ذاتية القيادة إلى المساعدات المنزلية الذكية، ستصبح مرحلة الاستدلال العبء الأكبر على نظام الطاقة العالمي.

 

مظاهر الأزمة .. كيف ستتجلى أزمات الطاقة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي؟

لا تقتصر الأزمة على مجرد ارتفاع في فواتير الكهرباء، بل يمكن أن تتخذ أشكالاً أكثر خطورة وتشابكا:

 

1ـأزمة الطلب على الكهرباء وانهيار الشبكات: تشهد العديد من الدول المتقدمة بالفعل تحذيرات من مشغلي الشبكات. ففي مناطق مثل الولايات المتحدة، أدى النمو المتسارع لمراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي إلى إعادة تقييم توقعات الطلب على الكهرباء للأعوام القادمة، حيث تم تعديلها بشكل كبير نحو الأعلى. يمكن لهذا الطلب المتصاعد، إذا لم تتم إدارته، أن يدفع شبكات الكهرباء إلى حافة الانهيار، خاصة في أوقات الذروة أو خلال موجات الحر أو البرودة الشديدة، مما يؤدي إلى انقطاعات متكررة وكبيرة للتيار الكهربائي، ليس فقط لمراكز البيانات، بل للمنازل والمستشفيات والصناعات الحيوية.

 

2ـالانتكاسة المناخية والضغط على أهداف الحياد الكربوني: المعضلة الكبرى تكمن في مصدر هذه الطاقة، إذا تم تلبية الطلب المتزايد من خلال حرق المزيد من الوقود الأحفوري (الفحم والغاز)، فسنشهد انتكاسة كبرى في مكافحة تغير المناخ. ستتجه انبعاثات الكربون للارتفاع مجددا، مما يقوض عقودا من التقدم نحو اتفاقية باريس وأهداف الحياد الكربوني. سيدفع الذكاء الاصطناعي، الذي يُروج له كأداة لحل المشكلات المعقدة، إلى تفاقم أكبر أزمة تواجهها البشرية إذا لم يتم فصله عن الكربون.

3ـأزمة الموارد المائية الخفية: غالبا ما يتم إغفال جانب حيوي آخر، وهو الاستهلاك الهائل للمياه. تحتاج مراكز البيانات إلى كميات هائلة من المياه لتبريد خوادمها العملاقة. تشير التقارير إلى أن بعض مراكز البيانات يمكنها استهلاك ملايين اللترات من المياه الصالحة للشرب سنويا. في عالم يعاني بالفعل من الإجهاد المائي في العديد من المناطق، يشكل هذا ضغطا إضافياعلى الموارد الشحيحة، مما قد يؤدي إلى نزاعات محلية حول المياه ويهدد الأمن المائي للمجتمعات المجاورة.

 

4ـالتوترات الجيو-سياسية والاقتصادية: ستعيد أزمة الطاقة رسم خريطة القوى العالمية. الدول التي تملك فائضا في الطاقة الرخيصة (سواء كانت متجددة أو تقليدية) ستحظى بميزة تنافسية هائلة في سباق الذكاء الاصطناعي. قد يؤدي هذا إلى:

ـ تركيز القوة التكنولوجية: ستصبح القدرة على تطوير ونشر نماذج الذكاء الاصطناعي المتطورة حكرا على الدول أو الشركات القادرة على تأمين إمدادات طاقة ضخمة وموثوقة.

ـنزاعات الموارد: قد تندلع منافسة محمومة على الموارد الطبيعية اللازمة لتوليد الطاقة (مثل الغاز) أو لصناعة البنية التحتية (مثل أشباه الموصلات والمعادن النادرة)، مما يزيد من حدة التوترات الدولية.

 ـ تفاوت اقتصادي: سترتفع تكاليف تشغيل الشركات في جميع القطاعات بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، مما يزيد من التضخم ويوسع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة.

 

نحو مستقبل مستدام استراتيجيات التخفيف والمواجهة

لا ينبغي أن تكون هذه الصورة القاتمة حجة لوقف تطور الذكاء الاصطناعي، بل هي دعوة للعمل الذكي والاستباقي. الحل ليس في مقاومة التقدم، بل في توجيهه نحو الاستدامة.

 

هناك عدة مسارات يمكن اتباعها لتجنب السيناريوهات السيئة

1ـالابتكار في كفاءة الطاقة والخوارزميات: هذا هو الحل الأكثر جوهرية. يعمل الباحثون على تطوير خوارزميات وبنى معمارية جديدة “أخف وزنا” وأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة. يمكن لتقنيات مثل “الانتقاء الدقيق” (Fine-tuning) و”التدريب الموزع” أن تقلل بشكل كبير من الطاقة المطلوبة للتطوير. كما أن تصميم رقائق متخصصة (ASICs) مصممة خصيصا للذكاء الاصطناعي يمكن أن تزيد الأداء لكل واط بشكل كبير.

2ـالتحول الجذري إلى مصادر الطاقة المتجددة: يجب أن يكون الربط الوثيق بين مراكز البيانات والطاقة النظيفة أولوية قصوى. على الشركات التكنولوجية العملاقة الوفاء بتعهداتها بالعمل بنسبة 100 بالمائة على الطاقة المتجددة. هذا يتطلب استثمارات ضخمة في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة النووية المتقدمة (مفاعلاتSMRs) والهيدروجين الأخضر. يجب أن تصبح مراكز البيانات “مرنة” للشبكة، حيث تقلل من عملها في أوقات ذروة الطلب أو حتى تزود الشبكة بالطاقة من بطارياتها الاحتياطية.

3ـتحسين كفاءة البنية التحتية لمراكز البيانات: يمكن تحقيق وفورات هائلة في الطاقة من خلال تحسين أنظمة التبريد (باستخدام التبريد السائل عالي الكفاءة بدلامن التبريد بالهواء)، واستعادة الحرارة المهدرة من الخوادم لتسخين المباني المجاورة، وبناء مراكز بيانات في مناطق مناخية باردة طبيعياً لتقليل متطلبات التبريد.

4ـالتشريعات الذكية والحوافز: يجب على الحكومات أن تلعب دورا محوريا من خلال وضع معايير صارمة لكفاءة الطاقة لمراكز البيانات ونماذج الذكاء الاصطناعي. يمكن فرض “ضرائب كربون” على عمليات الذكاء الاصطناعي المكثفة للطاقة، مع منح إعفاءات ضريبية وحوافز للشركات التي تتبنى أفضل الممارسات في مجال الاستدامة. كما أن الشفافية في الإفصاح عن بصمة الطاقة والكربون والماء للذكاء الاصطناعي يجب أن تكون إلزامية.

5ـإعادة النظر في “التفكير الأكبر هو الأفضل”: يحتاج قطاع الذكاء الاصطناعي إلى ثقافة جديدة تتحدى الفكرة القائلة بأن النموذج الأكبر حجما هو دائماالأفضل. هناك مجال واسع للتركيز على نماذج أصغر حجماً وأكثر تخصصا تؤدي مهام محددة بكفاءة طاقية عالية، بدلا من السعي الدائم لبناء “عقول عامة” عملاقة تستهلك موارد الكوكب.

يقف العالم عند مفترق طرق حاسم، يمثل الذكاء الاصطناعي واحداً من أعظم الاختراعات في تاريخ البشرية، بقدرته على حل الأمراض، ومواجهة التغير المناخي، وإطلاق إبداع غير مسبوق. لكن هذا الجني الخارق، إذا أطلق من قمقمه دون حكمة، قد يحمل معه لعنة استنزاف موارد الكوكب ويدفعنا إلى أزمات طاقة وبيئية لا تحمد عقباها.

الخيار بين مستقبل مضيء يقوده ذكاء اصطناعي نظيف ومستدام، ومستقبل تغلفه سحب الانبعاثات وتنقطع فيه التيار الكهربائي، هو خيارنا اليوم. النجاح لن يأتي من خلال التكنولوجيا وحدها، بل من خلال الإرادة السياسية، والابتكار المسؤول، والاستثمار الحكيم في نظام طاقة يحترم حدود كوكبنا. التحدي كبير، لكن الموارد الفكرية والبشرية المتاحة أكبر. السؤال هو: هل سنكون أذكياء بما يكفي لتدجين هذا العملاق قبل أن يستهلكنا؟

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى