
بعدما اقتحم الذكاء الاصطناعي مجالات العلوم على اختلافها، ها هو يطرق باب الفن، المجال الذي ظلّ حتى الأمس القريب حصناً لإبداعات عقل الإنسان دون غيره، حسبما اعتقد ويعتقد كثيرون. فظهرت أعمال فنية يقال إنها “اُنتِجت بواسطة الذكاء الاصطناعي”. ولكن ما هي نسبة مساهمة الذكاء الاصطناعي في هذه الأعمال؟ هل حلّ تماماً محل عبقرية الفنان؟ أو هل يمكنه ذلك في المستقبل؟
هذا ما حاولت القافلة أن تستكشفه في جلسة نقاش عن بُعد، وشارك فيها عدد من المختصين، ظهر تباين واضح بين أرائهم وتوقُّعاتهم ونظراتهم إلى حال الفن ومستقبله في مواجهة زحف الذكاء الاصطناعي صوبه. كما كان لعدد من المتابعين مباشرة على الشبكة تعليقات قيِّمة أثرت الحوار.
استكشافات الفنانين المتعدِّدة لمجال الذكاء الاصطناعي
حيث شهد المعرض الدولي الخامس للأعمال الفنية والعلمية ببكين خلال العام الماضي عرضَ أكثر من 120 عملاً فنياً، أبدعها نحو 200 فنان من أكثر من 20 دولة. وأظهرت تلك الأعمال استكشافات الفنانين المتعدِّدة لمجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك موضوعات مثل حدود الإدراك البشري، والنموذج الفني للابتكار التكنولوجي والابتكار التعاوني للتكنولوجيا والفن. وفي التأسيس للنقاش، أشار مدير الجلسة فهد الحازمي إلى حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليوم، ووصول هذا الحضور إلى الفن، مستعرضاً قصة لوحة الفنان إدموند دي بيلامي التي بيعت في دار المزاد العلني “كريستيز” بنيويورك، في أكتوبر 2018م، بمبلغ 432 ألف دولار، بوصفها أول عمل فني أنتجه الذكاء الاصطناعي وتم بيعه في مزاد علني، علماً أنها لفنان غير معروف ولم يُسمع به من قبل. فهذه اللوحة أُنتجت اللوحة بواسطة خوارزمية (أو نظام رياضي) تستند إلى سلسلة بيانات، مستمدة من 15 ألف لوحة فنية، مرسومة بين القرنين الرابع عشر والعشرين. ومن هذا التمهيد، طرح الحازمي سؤاله على المشاركين في الجلسة: هل هذا الفن يُعدُّ فنّا حقيقياً؟ وهل يُعامل مثل الفن الحقيقي والواقعي الذي اعتدنا عليه؟
الإبداع الفني مختلف مهما بلغت بيانات الذكاء الاصطناعي
أوضحت الفنانة التشكيلية لولوة الحمود أن الآراء حول علاقة الفن بالذكاء الاصطناعي متباينة. وأشارت إلى تجربة سبقت لوحة إدموند دي بيلامي، وطالت أعمال الرسام الهولندي رامبرانت، حين قام فريق من الخبراء بإدخال كثير من لوحات هذا الرسام الهولندي إلى الكمبيوتر، وأنتجوا لوحة جديدة بأسلوب الفنان الهولندي؛ وكأن رامبرانت نفسه هو الذي رسمها بعد وفاته بحوالي 350 سنة والذي حصل أن جهاز الكمبيوتر جمع البيانات، ودرس أسلوب رامبرانت، فاكتشف الأنماط التي كان يرسم بها بعض الصفات المحدَّدة، مثل ملامح الوجه والعينين، وطريقته في رسم المناطق المُضاءة وتلك التي في الظل وغير ذلك من التفاصيل، ثم أنشأ خوارزميات تُعلّم الآلة كيفية إنتاج صورة جديدة بأسلوب رامبرانت الفريد. وفي جواب مباشر عن سؤال طرحه مدير النقاش فهد الحازمي قالت الحمود: هذا الفن الذي سألت عنه، تدخلت في إنتاجه الآلة، لكن مَنْ كان وراء إنتاجه حقاً هو الإنسان. ولذا فإن هذا الفن لا يحتاج إلى فنان فحسب! وإنما إلى فنان ومبرمج في آنٍ واحد. فالفنان يعمل بأدواته الفنية، والمبرمج يتقن التعامل مع الآلة. وأضافت:” إن الذكاء الاصطناعي أداة يمكن استخدامها بما أننا عاصرناه، وشهدنا إمكاناته. واستخدام الذكاء الاصطناعي في الفن لا يُلغي الفنان ولا يُقلل من مكانته. والحق أن إنتاج هذا الفن هو عمل فريق كامل من المبرمجين، والمخرجين الفنيين، وغيرهم، وليس عمل فنان واحد”. وانتهت الحمود في هذا السياق، إلى أنّ الفنان في إنتاجه لهذا الفن يتخذ أدوات وأساليب كثيرة، وليس معنى ذلك أن المبرمج أخذ أو سيأخذ دور الفنان. إذ ليس للإبداع منطقٌ محددٌ. والإبداع البشري تحديداً يختلف عن الإبداع التقني مهما بلغت قدرات هذا الأخير، ومهما إحتوت بياناته.
الوقع على المتلقي هو ما يحدِّد كون العمل فناً أم لا
من جهتها قالت الفنانة والباحثة في فلسفة تعليم الفنون بجامعة بوسطن فوز الجميل، إن الصفة التي تميِّز العمل الفني عن الأعمال العادية والأشياء الطبيعية هي بحسب المفكر الإنجليزي كلايف بيل:”الشكل الدال”، وهو مجموعة الخطوط، والألوان، والتناسق والتجانس، وحتى الأشياء الكامنة في داخل الإنسان:” كالإحساس، والرقة، والهيبة، والجمال”. وهو كما يعرّفه بيل نفسه “الكيف الذي يميِّز الأعمال الفنية عن الأعمال العادية، أي النمط، الطريقة، وأسلوب تنظيم العناصر الحسية للعمل الفني”. وأضافت أنّ هذه العناصر عندما تجتمع في عمل ما، وتنعكس على المتلقي له، تُحقّق ما يُعرف في فلسفة الفن بـ:” الانفعال الجمالي”، وبالتالي يمكن أن نقول عن ذلك العمل “فنا”!. ومضت الفنانة الجميل إلى القول إنها لا تهتم بمن صنع الفن: هل هي الآلة أم هو الفنان البشري أم كلاهما معاً؟! بل تهتم بكيفية تعامل وتعاطي المتلقي مع العمل الفني. وتجد -في الوقت نفسه- أن لوحة إدموند دي بيلامي التي أشير إليها سابقاً، تحمل في أساسها فناً، بل فناً مشتركاً مع أعمال فنية من القرن الذهبي وما قبله وما بعده، إضافة إلى شيء من روح وإرادة التقنية. لكنها عادت لتشدّد على أن التعامل المباشر بالدرجة الأولى، هو التعامل مع العمل الفني نفسه، بغض النظر عن نوعه، مما يتيح له فرصة التعريف عن نفسه. وتطرَّقت الجميل إلى بعض الحالات والأمثلة التاريخية، مثل لوحات الفن الواقعي وفن الطبيعة الصامتة، التي ظهرت في القرن السادس عشر، حيث نجد أن باحثاً بريطانياً توصَّل إلى نظرية مهمة تثبت أن الفنان الهولندي جوهانس فيرمير وغيره من معاصريه، استخدموا الكاميرا المظلمة التي كانت أداة تقنية بصرية في ذلك العصر. وأضافت:” هذا يذكرني بالتشكيك في قدرات الفنان الإنسان الطبيعية في إنتاج الفن الواقعي الذي كان موجوداً في القرن السابع عشر، ويدعو إلى التساؤل: هل تغيَّرت نظرتنا نحن لهذا الفن؟ وهل نشعر بالغش فيه لاستخدامه الآلة؟ بالنسبة إلي، الجواب هو: لا. وهذه القضية لا تزال جدلية حتى الآن، فهناك قلق من ضمور الفن، أو موت الفنان. ولكن من خلال تتبعنا التاريخي لكل هذه الحالات: لم يمت الفنان، ولم يضمر الفن. كما لم يقلُّ تقديرنا كمتلقين لهذه الفنون. بل ما حصل هو العكس”.
“مشكلتنا هي في نظرتنا الكلاسيكية إلى الفن”
بعد ذلك، تحدَّثت المديرة الإعلامية لمؤسسة الفكر العربي ثناء عطوي، وانطلقت مما تراه وجود علاقة ملتبسة بين الفن والحقيقة، وأن مفهوم الفن يشير بحد ذاته إلى كونه غير حقيقي. وتساءلت:” كيف سيكون الحال عندما يدخل الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى الفني؟ الأمر الذي يُعدُّ تحدياً كبيراً للفنان. فالعالم يحاول استكشاف الاستخدامات المحتملة للذكاء الاصطناعي في الفن. وهو -أي الذكاء الاصطناعي- يعرض علينا أن نُغيِّر (كلياً أو جزئياً) من مفهومنا ورؤيتنا للفن، بل ويدعونا إلى توسيع آفاقنا في هذا الإطار” وقالت:” إن مشكلتنا مع الفن هي في نظرتنا الكلاسيكية إلى اللوحة، وإلى العمل الفني بشكل عام. وفي الوقت الذي اختلف فيه مفهوم الفن، وأصبحنا في مرحلة (فنّ الفضاء) لا يزال تفكيرنا واقفاً عند اللوحة المعلَّقة على الجدار، رغم أن اللوحة الفنية لم تَعٌد مؤطرة مثل الصور الفوتوغرافية التي ظلّت حبيسة الألبومات حتى ظهر التصوير الرقمي، وغيّر مفهوم التصوير كلياً، وأطلق العنان للصورة”.
السجال سيبقى والتجديد سينتصر في النهاية
وتوصَّلت عطوي في حديثها إلى أن السجال بين الذكاء الاصطناعي وبين الفن سيبقى. وسينتصر التجديد والتطوير في نهاية المطاف، وسيأخذ الذكاء الاصطناعي بأيدينا نحو التطوُّر والتغيير والانفتاح على “فن جديد”، شرط ألا يصل بنا الحال إلى الاستهلاكية الجمالية للفن، وأن نبقى مدركين ومتشبثين بالفرق بين القبيح والجميل، وبين القيّم والرديء. وشدَّدت على أن ذلك يعني صراحة ألا ننساق وراء كل شيء يقترحه الذكاء الاصطناعي باعتباره فناً مُدهشاً وبالغ الجَمَال! ولفتت إلى أن في الآونة الأخيرة، ظهرت نزعة فنية تَعُدُّ كل شكل من أشكال التعبير مهما كان “فناً حديثاً”. وذكرت على سبيل المثال معرضاً فنياً في أمستردام، حيث عرض أحدهم سلكاً كهربائياً ومصباحاً يتدليان نحو الأرض. ورأت أنه “لا يجب أن يبلغ الضحك علينا هذا الحد، وأن تُعَدَّ الأعمال البسيطة أو الرديئة فناً، وأن نستهلك الجَمَال بهذه الطريقة. وهذا ينطبق على ما ينتجه أو سينتجه الذكاء الاصطناعي، وهو أمر يجب الانتباه له”. قام فريق من الخبراء بإدخال كثير من لوحات الرسام الهولندي رامبرانت إلى الكمبيوتر، وأنتجوا لوحة جديدة بأسلوب هذا الفنان؛ وكأن رامبرانت نفسه هو الذي رسمها بعد وفاته بحوالي 350 سنة
السعي إلى معايـيـر جديدة في الفن
واستعرضت عطوي مقطعاً مرئياً يتضمَّن نظرة مستقبلية إلى التصميم تؤسس لما وصفته بـ”التجريب الفني” الهادف إلى وضع معايير جديدة للتصميم والعمارة تندرج تحت الأطر الفنية، ويتيح للفنان المعاصر أن ينطلق في إدراك مفاهيم فنية جديدة تنمِّي الوعي والتفكير والأداء الإبداعي والعلاقات الفنية، إضافة إلى البحث عن أساليب وتقنيات جديدة، تثري مجاله الفني. ففي رأيها، إن تعلُّم الفن لا ينتهي، ولذا سيكون الحال مع الذكاء الاصطناعي الذي سيفتح آفاقاً كثيرة وكبيرة أمام الفن والفنانين أمراً مختلفاً. والأمر لا يعني الفنان وحده، بل يعني العالم أجمع، وهذا ما يدعونا إلى أن نتغير من الداخل، ونُغيّر من مفاهيمنا، ومن طريقة تفكيرنا وتلقينا للجَمَال والفن. ليس للإبداع منطقًا محددًا. والإبداع البشري تحديدًا يختلف عن الإبداع التقني مهما بلغت قدرات هذا الأخير، ومهما إحتوت بياناته.
ق.ح