تكنولوجيا

هل تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى مواقع للتجاهل الاجتماعي؟

منذ انطلاقتها كانت مواقع التواصل الاجتماعي تهدف إلى تعزيز الروابط بين الناس وتقليص المسافات الجغرافية، لكنها بمرور الوقت بدأت تتحول إلى أدوات تغذي أشكالًا جديدة من العزلة والانفصال الاجتماعي بدلًا من تعزيز القرب والتفاعل الفعلي بين الأفراد، فقد أصبح من الشائع أن يجلس شخص وسط مجموعة من الأصدقاء أو أفراد العائلة بينما هو غارق في هاتفه يتصفح الصور أو يرد على تعليقات من غرباء، في حين يتجاهل التفاعل الإنساني الحقيقي مع من حوله

تشير العديد من الدراسات الحديثة إلى أن الاستخدام المفرط لمواقع التواصل يؤدي إلى شعور المستخدمين بالوحدة والانعزال رغم ارتباطهم تقنيًا بعدد كبير من الأشخاص فالمتابعون والمعلّقون لا يشكلون دعمًا اجتماعيًا فعليًا بل يعززون لدى الفرد وهم القرب والاهتمام، بينما علاقاته الحقيقية على الأرض قد تكون تتآكل بصمت معظم المستخدمين يمضون ساعات طويلة في تصفح منصات مثل إنستغرام وفيسبوك وتيك توك دون أن يتفاعلوا مباشرة مع أصدقائهم أو أسرهم.

 

وسائل التواصل من أجل الاستعراض الذاتي

تحولت هذه المنصات إلى ساحات استعراض ذاتي بدلا من أن تكون وسيلة للتواصل الإنساني المباشر، فالمستخدمون يعرضون لحظاتهم الأجمل وينتظرون التفاعل عليها دون أن يكون هناك تبادل حقيقي للأفكار أو للمشاعر، كما أن خاصية الإعجاب السريع والتعليق المختصر حلت محل الحوارات العميقة واللقاءات الواقعية، مما جعل الكثيرين يشعرون بأن التواصل الرقمي بات شكليًا وسطحيًا وغير كاف لتكوين علاقات إنسانية قوية ومستقرة.

يؤكد خبراء علم النفس الاجتماعي أن التفاعل الإنساني الطبيعي يتطلب إشارات غير لفظية مثل تعابير الوجه ونبرة الصوت ولغة الجسد، وهي عناصر تغيب تماما عن أغلب وسائل التواصل الرقمي مما يجعل العلاقات التي تُبنى عبر هذه المنصات علاقات ناقصة لا تنقل كامل المعنى أو الشعور، ويضاف إلى ذلك أن كثرة الرسائل التي يتلقاها المستخدمون عبر هذه المنصات تجعلهم يطوّرون نوعًا من التجاهل المتعمد بحيث يقرأ الشخص الرسالة ويتجاهل الرد أو يتفاعل دون اهتمام فعلي بمحتوى الرسالة

 

ثقافة التجاهل الاجتماعي

أدى هذا السلوك إلى تطبيع ثقافة التجاهل الاجتماعي، حيث أصبح عدم الرد مقبولًا وأحيانًا متوقعًا وصار الرد على الرسائل يُعتبر التزامًا مرهقًا بدلًا من كونه سلوكًا بشريًا طبيعيًا، وقد شجع هذا على نوع من اللامبالاة المزمنة تجاه الآخر خاصة بين الأصدقاء والمعارف وحتى في بعض الأحيان داخل العائلة والعلاقات القريبة، وتعمق هذا التجاهل نتيجة تحول العلاقات إلى أرقام ومؤشرات على الشاشة مثل عدد المتابعين وعدد الإعجابات مما أفقد العلاقات معناها الحقيقي.

الإشكالية الأكبر تكمن في أن هذه الأدوات الرقمية لا تقدم بديلًا كافيًا للتواصل الحقيقي، فهي توهم المستخدم بأنه مرتبط بالآخرين، في حين أنه قد يكون معزولًا تمامًا في واقعه اليومي، كما أن الاعتماد عليها في إدارة العلاقات يؤدي إلى ضعف المهارات الاجتماعية مثل الاستماع والتعاطف والتعبير الصادق، مما يجعل الأفراد أقل قدرة على بناء علاقات حقيقية ومستقرة خارج الفضاء الرقمي.

حتى العلاقات القوية لم تسلم من آثار هذا التجاهل فقد أصبح بعض الأزواج مثلًا يتبادلون أقل قدر ممكن من الحديث اليومي ويكتفون بنشر منشورات على المنصات، بدلًا من التعبير المباشر عن المشاعر، كما تراجع دور اللقاءات الفعلية بين الأصدقاء لصالح التفاعل عبر الرسائل أو الرموز التعبيرية وأدى هذا إلى نوع من الجفاف العاطفي العام، خاصة بين فئة الشباب الذين ولدوا ونشأوا في بيئة رقمية بالكامل ولا يملكون خبرة كافية في بناء العلاقات الواقعية.

 

التواصل الرقمي  

ما يحدث اليوم هو أن التواصل الاجتماعي الرقمي خلق حالة من التفاعل الزائف، حيث أصبح الأفراد يتحدثون إلى بعضهم البعض من وراء شاشات، لكنهم في الحقيقة لا يتبادلون إلا الحد الأدنى من الانتباه والعناية وهذا بدوره أدى إلى تصاعد الشعور بالإقصاء لدى الكثير من الناس الذين يشعرون أنهم محاطون بعشرات وربما مئات الأشخاص دون أن يجدوا من يستمع إليهم أو يهتم فعليًا بما يشعرون به.

الأمر لا يقتصر فقط على الأفراد بل يشمل المؤسسات أيضا، فقد أصبحت المدارس والجامعات والشركات تعتمد على وسائل التواصل في بناء مجتمعاتها الداخلية، لكنها تفشل في بناء روابط إنسانية حقيقية لأن التفاعل الرقمي لا يكفي لبناء الثقة ولا لتحفيز الانتماء، وهنا يظهر التناقض بين شعارات التواصل والانفتاح التي ترفعها هذه المنصات وبين الواقع الذي يتسم بالانعزال والتجاهل البارد.

في المقابل، لا يمكن تجاهل أن هذه الوسائل قدمت بالفعل فرصًا حقيقية للبعض من حيث التعبير عن الذات أو بناء علاقات جديدة خاصة لمن يعانون من صعوبات اجتماعية في الواقع لكن الاستخدام غير المتوازن لهذه المنصات، هو ما يحولها من وسيلة إيجابية إلى أداة تعزز التجاهل وتعمق العزلة.

لذلك يحتاج المجتمع اليوم إلى إعادة النظر في طريقة استخدامه لهذه الوسائل، وأن يطور ثقافة رقمية جديدة تحفز على التواصل الحقيقي لا على مجرد التفاعل السطحي وأن يعيد الاعتبار للعلاقات الواقعية كعنصر أساسي في الصحة النفسية والاجتماعية للأفراد فالروابط الرقمية لا يمكن أن تعوض الحضور الفعلي والنقاش الحقيقي والمشاركة الإنسانية المباشرة.

كما يجب أن تتدخل المؤسسات التربوية والإعلامية لتوعية الأفراد بخطورة التحول التدريجي من التواصل الاجتماعي إلى التجاهل الاجتماعي، لأن هذه الظاهرة لا تؤثر فقط على العلاقات الشخصية، بل تهدد بنية المجتمع كله عندما يصبح الانعزال هو القاعدة والتفاعل الإنساني الاستثناء.

في النهاية ورغم التقدم التكنولوجي الهائل تبقى الحاجة الإنسانية الأساسية هي أن يشعر الفرد بأنه مرئي ومسموع ومفهوم، وهذه لا توفرها التقنيات وحدها بل تتطلب جهدًا بشريا حقيقيا ورغبة صادقة في الإصغاء والمشاركة والحضور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى