
في زمن تتداخل فيه التقنية مع تفاصيل الحياة اليومية، برز مشهد جديد يستحق التوقف والتأمل: شباب يفتحون هواتفهم الذكية لا لأجل الترفيه أو الدراسة، بل لاتخاذ قرارات مصيرية مثل تغيير الوظيفة، إنهاء علاقة عاطفية، أو حتى التفكير في مسار الحياة.
هذا المشهد، الذي كشف عنه المدير التنفيذي لشركة “أوبن آي” سام ألتمان، يعكس كيف بات الذكاء الاصطناعي، ممثلاً في ChatGPT ، رفيقا ملازما لجيل “زد”، بل ومرشدا شخصيا في بعض الأحيان. لكن هذا التحول يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة: هل نحن بصدد ولادة جيل يُؤْثِر النصيحة الرقمية على الحوار الإنساني؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون بديلاً آمنا وملهِما للعلاقات الحقيقية؟
صعود “الصديق الرقمي”: من محركات البحث إلى مستشارين شخصيين
في حديثه خلال فعالية تقنية، أشار “سام ألتمان” إلى أن شباب الجيل الجديد لا يستخدمون ChatGPT كأداة بحث فقط، بل يعاملونه كما لو كان صديقاً ذكيا، يلجأون إليه في لحظات الحيرة، ويستأنسون بإجاباته في عزلة قراراتهم. هذه الظاهرة تمثل قفزة مفاهيمية في كيفية تفاعل الإنسان مع التقنية؛ فقد انتقل الذكاء الاصطناعي من كونه أداة استعلام إلى شريك في صنع القرار.
ويبدو أن هذا التحول لا يقتصر على صغار السن. فحتى من هم في الثلاثينيات والأربعينيات وجدوا في هذه الأدوات وسيلة بديلة عن البحث التقليدي، مع اختلاف الغرض منها؛ فبينما يرى جيل “زد” فيها شيئا شبيها بالحوار الشخصي، يستخدمها الكبار لأغراض عملية.
ما الذي يدفع الشباب إلى استبدال الناس بالخوارزميات؟
الإجابة قد تكون مركبة، لكنها تبدأ من طبيعة النشأة الرقمية التي وُلد فيها هذا الجيل، إذ لم يعرف عالمًا يخلو من الإنترنت أو التطبيقات الذكية. أضف إلى ذلك الظروف الاقتصادية القاسية، والقلق المناخي، وتراجع الأمان الوظيفي، وهي عوامل تجعل الشاب يبحث عن إجابة فورية، لا تُكلف شيئاً، ولا تحتاج إلى شرح طويل أو مجاملة اجتماعية. وهنا يبرز ChatGPT كحل سهل، متاح 24/7، لا يُصدر أحكاماً ولا يتطلب تبريرات.
لكن هل يظل هذا الاعتماد آمنًا على المدى الطويل؟ وإن كان الذكاء الاصطناعي يُحسن الاستماع والرد، فهل يستطيع تعويض دفء العين التي تراك، والصوت الذي يواسيك، والذاكرة المشتركة التي تربطك بشخص يعرفك منذ طفولتك؟
بين الخصوصية والفقدان العاطفي: التناقض الكامن في العلاقة
من بين أبرز مزايا ChatGPT خصوصيته المطلقة، وهو أمر يقدّره الشباب، خاصة عند الحديث عن موضوعات حساسة كالصحة النفسية، العلاقات، أو القلق الوجودي. لا حاجة إلى الخوف من الأحكام، أو الخيانة، أو النظرة الدونية. هذا النوع من الأمان الرقمي يمنح المستخدم راحة قد لا يجدها في أقرب المقرّبين منه.
لكن في المقابل، تنشأ مشكلة أخطر: غياب العمق العاطفي. فمهما بدا النموذج الذكي “متفهما”، فهو لا يملك قلبا، ولا ذاكرة شعورية، ولا إحساسا بالألم أو الندم. وبالتالي، فإن الاعتماد المطلق عليه قد يخلق نوعاً من العزلة العاطفية، حيث يُفضل الفرد النصيحة السريعة على التجربة المشتركة، والحل الرقمي على النضج الناتج عن الحوار والتفاهم مع الآخرين.
خطر الهلوسة وتضخيم التفاؤل: الذكاء الاصطناعي ليس معصوما
من أبرز التحديات التقنية المرتبطة بـ ChatGPT وغيرها من النماذج الذكية، ظاهرة “الهلوسة”، أي تقديم معلومات غير صحيحة، لكنها تُصاغ بثقة تُخيف القارئ من التشكيك بها. هذه المشكلة التقنية يمكن أن تؤدي إلى قرارات خاطئة، خصوصاً إذا ما استند المستخدم إليها بثقة مفرطة دون التحقق.
إضافة إلى ذلك، تميل بعض الردود إلى الإيجابية المفرطة، وكأن الحياة سهلة ومثالية، دون الأخذ بعين الاعتبار التعقيدات النفسية والاجتماعية التي يمر بها الإنسان. هذه الصورة الوردية قد تُضلل البعض، وتجعلهم يتخذون قرارات متهورة، غير مبنية على أرض الواقع.
من المسؤول إذا أخطأ الذكاء؟
سؤال يفرض نفسه بقوة: إذا تسبب قرار نابع من نصيحة رقمية في ضرر نفسي أو اجتماعي، من يتحمل المسؤولية؟ هل هو المستخدم الذي لجأ للأداة؟ أم مطوّر البرنامج؟ أم أنه لا وجود لمُلام أصلاً لأن التطبيق لم يدّعِ يوماً أنه بديل للخبرة الإنسانية؟ هنا تقع الإشكالية الأخلاقية والقانونية في منطقة رمادية، ما يدفعنا إلى التفكير الجاد في ضوابط استخدام هذه الأدوات، لا من باب المنع، بل من باب الحذر والتوازن.
المطلوب إذاً ليس الاستغناء عن هذه الأدوات، بل الوعي بكيفية ومتى نستخدمها. لا بأس في أن نستشير ChatGPT إذا كنا نبحث عن تحليل موضوعي، أو ترتيب أفكارنا، أو حتى التفاعل مع منظور مختلف. لكن الخطأ يكمن في أن نُسلّم له قراراتنا كلياً، أو نستبدل به صداقاتنا، أو نختزل العالم الإنساني كله في شاشة سوداء تكتب عليها ما تشاء.
ربما من المفيد أن نطرح على أنفسنا سؤالاً بسيطاً في كل مرة نفتح فيها التطبيق: هل أبحث عن إجابة أم أهرب من مواجهة؟ هذا السؤال وحده قد يكشف الكثير عن دوافعنا الحقيقية، ويمنحنا فرصة لإعادة بناء علاقتنا مع أنفسنا أولا، ومع العالم ثانيا.
ChatGPT وأمثاله ليسوا أعداءنا، بل أدوات قوية بوسعها أن تُثري حياتنا، تُعزز وعينا، وتُسهم في تطوير طريقة تفكيرنا. لكن في الوقت نفسه، فإن التعامل معها دون وعي يُخشى أن يقودنا إلى عزلة فكرية وعاطفية، تُضعف روابطنا الإنسانية الحقيقية.
يبقى الرهان الأكبر ليس في التطور التكنولوجي، بل في نضجنا كبشر في كيفية التعامل معه. بين قُرب الذكاء الاصطناعي وبرودة محركاته، ودفء إنسانيتنا رغم تعقيداتها، لا تزال لنا حرية الاختيار: هل نُبقي الحوار الإنساني حيّاً، أم نكتفي بحديث مع آلة تُجيد الكلام، لكنها لا تعرف كيف تُحب؟