
تودع مهنة الإعلام بعد أكثر من 30 سنة قضتها في ميدان التصوير الصحفي، تاركة وراءها أرشيفا ثقيلة من الصور وذاكرة مهمة، وثقت خلالها ما يفوق 1000 حدث مهم لا يتكرر، واختصرت ساعات من الأحداث والقصص في صور تروي محطات مهمة من ذاكرة الجزائر سواء سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا وثقافيا.
اقتحمت ملاعب كرة القدم، وكانت أول امرأة تطأ قدماها أرضية الملعب متحدية جمهورا ذكوريا، صعب الاقتناع بمزاحمة المرأة له في ميدانه، عملت في أصعب سنوات الجمر التي عاشتها الجزائر، إنها المصورة الصحفية “نادية…”. ولأنها كذلك، فقد ارتأت جريدة “البديل” أن تفرد لها مساحة لمعرفة نظرتها بين مهنتي التصوير في السنوات الماضية واليوم في عالم التكنولوجيا الرقمية، فكانت هذه الفسحة…
من مصورة العائلة إلى عالم التصوير المحترف
رغم أنها ترعرعت في عائلة ميسورة الحال، وكانت وحيدة أبويها رفقة أخيها، إلا أنها لم تتكل يوما على عائلتها، بل تمتن لوالدها الذي شجعها منذ البداية على الدراسة ودخول مجال العمل، حتى تكون نفسها وتكون قادرة على تحمل مسؤوليتها مع مرور الوقت وهو الدعم الذي لاقته من شقيقيها، مقابل الرفض الذي واجهتها به والدتها، التي كانت ترغب في رؤيتها متزوجة وربة بيت ناجحة ترعى زوجها وأولادها…
وفي هذا الزحام، كانت “نادية” تمارس هوايتها بعدما اقتنت “آلة تصوير”، لتبدأ رحلة التصوير وتوثيق اللحظات المهمة والمناظر التي تشدها، لتصبح مع الوقت “مصورة العائلة”، تلتقط لأفرادها أجمل اللحظات وتوثق لقاءاتهم الخاصة، لاسيما تلك المتعلقة بالمناسبات كالأعراس والأفراح.
شغفها بالصورة، جعلها تلتحق بجريدة “ديتيكتيف” ثم جريدة “الرأي”، وفي هاته الجريدة، وجهها مديرها “موسى بن نعوم” إلى التكوين حتى تضطلع بالتقنيات المهمة في فن التصوير، لأن التصوير المحترف غير التصوير العادي، فالتحقت بدار الشباب “بن شنب” بميشلي، وهناك تلقت أصول التصوير، لتكون أول مهمة تصويرة رسمية لها تغطية حفل الفنانة الكبيرة “ماجدة الرومي” بقصر الرياضة بوهران1997، وتلتها باقي المهام الصحفية التي كانت ترافق فيها زملاءها الصحفيين، لتكون المشاهد المصورة من طرفها شاهد على العصر.
وبعدها غادرت هذه الجريدة التي أسدلت الستار هي الأخرى على صفحاتها، والتحقت بالجريدة العريقة “الجمهورية”، التي كانت تحت إشراف المدير الصحفي الكبير الراحل “بوخالفة بن عامر”، وهناك عززت معرفتها بالصورة، وعملت على تقديم الأفضل والتفرد بلقطات مميزة ونادرة.
أول امرأة تقتحم عالم الملاعب… وشاهدة على سنوات الجمر
ولأن شغفها بالتصوير كان يسكن جوارحها ويسري في دمها، لم تكن لتحتج على أية مهمة تسند لها، بحسب تصريحها لجريدة “البديل”، بالعكس فقد كانت ترى في ذلك تحديا للآراء والمواقف التي كانت تردد ضد حرية المرأة، فقد كانت أول امرأة تقتحم ملعب كرة القدم وتنقل مشاهدة للقراء، دون أية عقدة أو خوف، وقد رافقها في ذلك زميلها المصور الصحفي الراحل “الطاهر عبد الله”، الذي كان يشتغل بجريدة “لو كوتيدياندورون”، وقد كانت ترتدي قبعة رياضية ونظارات مع شعر قصير، فلم يلاحظ جمهور الملعب أنها فتاة إلا بعد مرور سنوات، بعدما كان قد اعتاد على وجودها، ليرحب بها ويتفاعل معها بكل إيجابية.
كما أنها عايشت أصعب مرحلة في تاريخ الجزائر الحديث وهو العشرية السوداء، التي مازالت بعض المشاهد المؤلمة تسكن ذاكرتها إلى اليوم، وكذلك بالنسبة لبعض الأحداث على غرار زلزال بومرداس، حيث كتمت مشاعرها لتبحث عن أفضل مشهد يوصل حقيقة الألم والدمار الذي عاشه سكان المنطقة آنذاك، في وقت كان لزاما عليها أن تكون المشاهد الأساسي والرئيسي والعين التي يطلع من خلالها القارئ على ما حدث حقيقة. وهي المواقف التي ترى بأنها أصعب اللحظات في مهنة المصور، لأنها تجد نفسها مجبرة على التحكم في مشاعرها والتركيز على تصوير المشهد ونقل الحدث كما هو، لتصبح الصورة تتكلم وتتحول إلى قصة يقرؤها المتلقي ويفسرها بنظرته الخاصة.
“الغرفة السوداء” المقصلة التي يتجاوزها المصور المحترف
“نادية صحراوي”، لم تتردد يوما في أداء مهمتها رغم صعوبتها، لاسيما في سنوات التسعينات، حيث كان الأمن غير مستقر، وكان يتحتم عليها التنقل من وهران (مقر جريدة الجمهورية) إلى ولاية أخرى من أجل تغطية الأحداث، لكن الصعوبة كانت تكمن في أنها تضطر إلى العودة إلى “الغرفة السوداء” بمقر الجريدة من أجل تحميض الصور وإخراجها حتى تقدم إلى إدارة التحرير، لأن ذلك الوقت لم تكن الصورة مالحة ببساطة مثلما هو اليوم.
فقد حدث ذات مرة أن تقوم بتصوير تظاهرة في النهار ثم تنتقل من البيض إلى وهران، متجهة إلى مقر الجمهورية ليلا، لتحميض الصور وإخراجها وإعدادها من أجل أن تكون جاهزة لطاقم التحرير في صبيحة اليوم الموالي،والعودة في نفس الليلة إلى البيض لمواصلة التغطية.
فقد كان العمل صعبا للغاية ويضع المصور في دائرة الشكل طيلة رحلة تحضير الصورة، إلى أن تنتهي وتظهر ملامحها التي كانت وقتها فقط بالأبيض والأسود، وقد كان ذلك تحديا بالنسبة لها، لأن الصورة لا تظهر عند التقاطها، بل تبقى متخفية حتى الإخراج النهائي، وهو ما يصعب إعادة تصويرها إذاما حدث وتعرضت للتشويه،أو الحذف أو الاسوداد أو الابيضاض أكثر. كما كان يتم إرسال “فيلم الصور” مع سيارات الأجرة أو المعارف من منطقة الحدث إلى مقر الجريدة لتحضيره الصور من طرف الزملاء بقسم التصوير.
التصوير الرقمي رغم مزاياه، يهدد الذاكرة
بعد ظهور تقنيات جديدة على آلة التصوير ودخول الإنترنت، أصبح بإمكانها تصوير الأحداث ثم وضع “بطاقة الذاكرة” التي أصبحت تحمل الصور بالحاسوب وتركيب وتعديل الصور وإرسالها عبر الإيمايل إلى إدارة التحرير، كما أصبح اختيار الصور متاحا بطريقة أكبر من قبل، حيث أصبح بالإمكان أخذ 10و20 صورة وإرسالها بعدما لم تكن تتعد 5 صور في زمن “الكليشي”، فأصبح المصور حسبها يعمل مرتاحا عبر توثيقه المباشر تلك الصور على قرص مضغوط (سي دي) أو (فلاش ديسك).
ليأتي اليوم التصوير الرقمي الذي ترى المصورة الصحفية “نادية صحراوي”، أنه يقدر ما يحمل من إيجابيات، يحمل أيضا سلبيات، لأنه سهل مهمة التصوير لدرجة أن الجميع أصبح يصور، في الوقت الذي تحتاج فيه الصورة الصحفية إلى مصور محترف يتقن استعمال آلة التصوير، هذه الأخيرة، التي تبقى النسخة القديمة منها (آرجونتيك) أفضل آلة لأخذ صورة وتوثيق مشهد.
كما أن”نادية” تعيب على التصوير الرقمي سرعة تلف صوره، في حال ضياع آلة التصوير أو تعرض بطاقة الذاكرة أو السي ديه (قرص مضغوط) للخدش، أو الاستعمال المتكرر، فإنه يصعب استرجاع تلك الصور أو المادة التي يخزنها، وهو ما يجعل الذاكرة معرضة للتلف، وقد تضيع لحظات ومحطات تاريخية، في الوقت الذي بقيت كليشيهاتوصور موثقة ومحفوظة من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي شهادة على حقبة مهمة من تاريخ الجزائر بمصلحة الأرشيف الخاص بجريدة “الجمهورية”.
يذكر أن “نادية صحراوي” أم لبنتين متزوجتين وشاب في مقتبل العمر، وهي جدة لـ 5 أحفاد.
أعدته: ميمي قلان