روبرتاج

معارك الولاية الخامسة إبان الثـورة التحريرية

ملاحم...من عمق المأساة الاستعمارية

لاتمر علينا مناسبة تاريخية، إلا وعادت لأذهان الجزائريين ذكريات الثورة التحريرية الكبرى، التي أسقطت أكبر الإمبراطوريات الاستعمارية في تلك الحقـبة، خاصة وأنها سجلت شهادة أكثر من مليون ونصف مليون شهيد من نساء ورجال وأطفال، وحتى الكهول، هكذا شيئا فشيئا يمر الوقت وينساب الزمن، على تلك الليلة من أقصى غرب الجزائر، رجال بأسلحة بدائية وقـلوب مفعمة بالإرادة وبحب الجزائر.


 

في تلك الليلة وصلت مسيرة منتهاها، وهو تفجير الثورة المسلحة، وبدأت مسيرة أخرى هدفها تحرير البلاد، ولم يكن الأمر مهما بالنسبة لهم، لأنهم كانوا على يقين من أنهم سيصلون يوما إلى خط النهاية المتمثل في استرجاع السيادة الوطنية والاستقلال، ولقـد ساهمت الـولايــة الخامسـة بالقسط الوفير في إبقاء شعلة الثورة مضيئة، وبالأخص المنطقة الأولى التي ضمت المناطق الحدودية، كانت إحدى الشرايين المهمة للثورة والقلب النابض، والتي مدت مجاهدينا بالعـتاد والمؤونة.

حيث شهـدت الـولايــة الخامسـة إبّـان الثورة التحريرية المجيد1954ـ1962، معارك مست كافة المنطــقـة الأولـى للجهة الغربية للوطن من الولايـة الخامسـة، هي معارك كانت دليلا قاطعا أن الإنتفاضة والتمرد تخلل نفوس كل الجزائريين، الذين تحدوا القوة الإستعمارية بروح الرجل الواحد، عازمين على إفتكاك الحرية ونيل الإستقلال.

“الــبــديـل” تعود لهذه المعارك، التي كانت قصصا متعشبة بفصولوها تجمع بين البطولة والمأساة، ملاحم عمت كل القطر الجزائري، أين أظهر فيها الجزائريون قدراتهم القتالية ورفضهم التام لكل أشكال الغطرسة والتعسف التي إنتهجتها القـوة الإستعمارية الفرنسية.

 

معركة جبل عساس 1958… خسائر بشرية قدرت بحوالي 200 ما بين قتيل وجريحمع سقـوط 03 طائرات حربية في المعركة

هي من أهـم وأكبر معارك المنطقة الخامسة للولاية الخامسة،حيث كانت مجموعةمن المجاهدين متمركزة بجبل عـساس بالمكان المسمى “الخلوة”، فقامت قوات العدو الفرنسي بمحاصرتهم من كل الجهات: الجهة المطلة على جبل ورقلة وجهة القور والجهة المطلة على طريق عين يسر سبدو، وظهرت طائرات حربية قامت بإنزال عسكري في رأس الجبل لإنزال القوات الخاصة، وبعـد اشتداد المقاومة من طرف المجاهدين البواسل استعمل العـدو طائرات من نوعb26 وt6لقصف مواقع المجاهدين لمدة ساعة أو ساعتين من الزمن.

ومن بعد ذلك، حاول العدو الزحف برا، لكن دون جدوى فاستعمل سلاح مدفعية الميدان للقصف فنصب حوالي 34 l’artillerie في الطريق الرابط بين أولاد ميمون وسبدو عند دوار مرباح،وقصف الجبل من جميع النواحي لمدة حوالي يوم إلى حين حلول الظلام، فانسحب من بقي من المجاهدين البواسل.

واستشهد منهم 97 وأسر 18 مع فقـدان بعض الأسلحة، أما قـوات العـدو فتكبدت خسائر بشرية قدرت بالكثير لحوالي 200 ما بين قتيل وجريح، مع سقـوط 03 طائرات حربية في معركة غير متكافئة دامت يوما كاملا، لكن بعد المعركة قامت قوات الاستعمار بمحاصرة الجـبل لمدة 03 أيام بما يـقارب 03 آلاف جـنـدي.

شاركت في هذه المعركة كتيبة خاصة بقيادة “حسيني”، اسمه الثوري “سوفي” ونائبه “حشماوي لعرج”، كتيبة “القندوسي”، “لعـرج لهديلي”، “خليفة رحوي”، “شريفي ميلودي” وكتيبة المصدق…وكانت قيادة الناحية الرابعة من طرف المجاهد النقيب “حدوش علي” المدعو “سي زوبير”، ولقـد عجزت مختلف وحدات جيش التحرير، خاصة كتيبة الكمندوس على مستوى المنطقة الخامسة للولاية الخامسة بقيادة بلحسن ونائبه “طاهر موسطاش” من دخول المعركة لاشتداد القصف.

وكان معروفا على هذه الكتيبة دخول غمار مثل هذه المعارك لإيجاد ثغـرات تسهل إنسحاب وحدات جيش التحرير في حال سيطر العـدو على زمام الأمور،كما أن كتيبة النقل بقـيادة “بوسلاح”، ظلت متمركزة بجبل سيدي يوسف لاستحالة المواجهة بسبب الأسلحة والذخائر التي كانت بصدد إيصالها لجبال سعيدة بالمنطقة السادسة للولاية السادسة، وهكذا فإن مجرد تنقل كتيبة النقل أو اشتباكها مع العدو يعـد ضربا من الخيال أو انتحارا.

من أبرز شهـداء المعركة “سي محمود الهديلي”، كما شارك في المعـركة “عمراني الشيخ”، والمجاهد “شيخاوي محمد” المدعـو “بوسلاح” الذي كان قائدا لكتيبة النقل للسلاح والذخيرة، وكانت كتيبته متمركزة بجبل سيدي يوسف، بحيث لم يستطع دخول المعركة لوجود عـتاد ثقـيل كان بصدد إيصاله إلى المنطقة السادسة بجبال سعيدة.

وكان عـدم دخوله للمعركة واضحا، خاصة وأن الأوامر كانت تمنع تمركز عدد كبير من المجاهدين في مكان واحد، في الوقت الذي كان العـدو يقصف موقع المجاهدين بجبل عساس حدثت حادثة غريبة في معسكر كتيبة “بوسلاح” للنـقـل، ومع اشتداد القصف هربت “بغلة” محملة بالسلاح والذخيرة بعـدما جفلت، لكنها مع حلول الفجـر عادت لمكانها الأول، وهذه من الكرامات التي اخـتص بها المجاهـدون الأحـرار.

 

مـعـركــة “فــلاوسـن”…الانـتـفـاضـة تـصـل لأبـعـد نـقـطـة فـي الـغـرب الـجزائري

يمتد جبل “فلاوسن” بين دائرتي فلاوسن وندرومة بولاية تلمسان، يضم عدة قمم محدبة عالية ومتوسطة تتخللها منحدرات وعرة المسالك، هذه المناعة الطبيعية جعلت منه حصنا منيعا يحتمي به الثوار، جرت بهذا الجبل عـدة معارك أبرزها معركة 20 أفريل 1957 التي دامت يومين كاملين.

توقع مجاهدو المنطقة هجوم العدو عليهم، بعد سلسلة المباغـتات التي شنوها ضد الجيش الفرنسي وألحقت به خسائر هامة، فتجمع 220 مجاهدا موزعين على ثلاثة كتائب يقودها “وشن مولاي علي”، ويساعده في قيادة الكتائب “تيطوان” و”وشن أحمد” و”محمد عـبد الله”، تمركز المجاهدون بمنطقة “المنشار” لرصد تحركات الجيش الفرنسي عن كثب هذا الأخير كان عازما على القضاء على الثوار بهذا الجبل.

معرفة تضاريس المنطقة، مكنت القـيادة من استدراج العـدو إلى منطقة عارية بعيدة عن الغابة هي أراضي فلاحية، تمركز جيش التحرير على شكل نصف حلقة دائرية، في حين واصل العدو زحفه داخل المنطقة العارية بفرقتين مقاتلتين معززتين بالدبابات والمدرعات و30 طائرة مقنبلة و12 مروحية، حيث انتظر الثوار توغل جيش الاحتلال داخل المنطقة، ثم أمطروه بوابل من الرصاص، حاول العدو مرارا اختراق الخط الدفاعي للمجاهدين، إلا أن محاولاته باءت بالفشل، ووسط الذهول والفزع الذي أصابه جراء الخسائر التي لحقت به في الجولة الأولى من المواجهة استنجد بسلاحه الجوي لقصف المكان تلته عملية إنزال جوي قصد محاصرة المجاهدين بدأت وتيرة القتال تتغير بمرور الوقت.

ومع ذلك استمر القتال إلى غاية حلول الظلام، قررت قيادة جيش التحرير الانسحاب قبل طلوع النهار باتجاه “وادي السبع”، لكن سرعان ما اكتشفت القـيادة أنها محاصرة، وتجنبا للمخاطر انتشروا عبر أطراف الوادي، وانتظروا الوقت المناسب لتنفـيذ خطة الانسحاب إلى قرية “لعـربـيا”، حيث استقـروا لبعض الوقت لتقييم نتائج العملية والاستعداد للجولة المقبلة.

وقد خاض المعركة ٥٠ عـنصرا من مجاهدي المنطقة تحت قيادة “مولاي أحمد” المخطط والمدبر للهجوم على الأسلحة الثقيلة للعدو الفرنسي، منها المدرعات والدبابات وكانت نتيجة ذات المعركة تقديم ٢٦شهيدا قربانا للوطن مقابل إسقاط 32 من الـبـولـيـس الفـرنـسي.

 

معـركـة جـبـل الـقادوس 24 نـوفـمـبـر 1956

يقع جبل “القادوس” ضمن سلسلة جبال بلدية “تيرني بني هديل” جنوب مدينة تلمسان، يحدها من الشرق جبال “بني غزلي” ومن الغرب جبل “الناضور”، الجبل في عمومه متوسط الارتفاع مغطى بالأشجار، كما تتخلله أراضي زراعية منبسطة.

واعـتبارا لهذه المميزات، عـمد جيش التحرير منذ انطلاق الثورة إلى التمركز فيه وإقامة مراكز عبر أطرافه للانطلاق منها إلى الجهات المجاورة، ومن أهم هذه المراكز مركز “دار عـبد القادر بن يوسف”، وكانت المنطقة أيام الثورة التحريرية ضمن القسم الرابع الناحية الرابعة المنطقة الأولى الولاية الخامسة.

وقـد كانت الوحدة مشكلة من فوجين تعدادهم بين 22 و30 مجاهدا يتولى قيادتهم المجاهد “شواري بومدين” وبمساعـدة المجاهد “ميلودي” المدعو “التونسي”، حيث كانت بحوزة الفوجين قطعة جماعية من نوع 24/29 وبنادق فردية آلية من أصناف مختلفة، وكانت  قوات العدو مشكلة من وحدات للقوات البرية تدعمها طائرات حربية ذات المهام المتعددة وأرتال من المدرعات والعربات العسكرية تم تجميعها من المراكز العسكرية المنتشرة عـبر المنطقة.

ومن أسباب وقـوع معركة جبل القادوس العمليات العسكرية للثوار عـبر كامل الناحية، منها عملية قطع أسلاك الهاتف، تخريب الطرقات، الهجمات المتكررة على مراكز العدو العسكرية “بمنصورة”، والمركز المتواجد بمزرعة أحد المعمرين، وبعد هذه العمليات تحركت قوة جيش التحرير الوطني جنوبا وتمركزت بجبل قادوس للاستراحة وضبط أمورها. ويبدو أن العدو كان يرصد تحركات الثوار ويستعـد لمهاجمتهم بعد انتشار أخبار عملهم العسكري عبر كامل المنطقة، مما أثر سلبيا على معنويات جنوده وخاصة المعمرين الذين سلبوا الأراضي الفلاحية الخصبة وهذه هي الأسباب التي أدت إلى نشوب هذه المعركة.

وفي صباح يـوم 24/11/1956، رصدت الحراسة تحركات للعدو في نقاط عـدة من المناطق المحيطة بالمركز، تبين بأن جيش الاحتلال يتوجه نحو الجبل من مسالك مختلفة الأمر الذي يستدعي الحيطة وأخذ التدابير اللازمة قبل تطور الوضع ويصبح صعـبا.

فور إعلام هذه الأخيرة بالمستجدات والأوضاع على الساحة، أسرعـت في إعادة انتشار قوتها والتمويه بالموانع الطبيعية، حسب المنطقة استعدادا للقتال الذي أصبح أكـيدا بعد ظهور طائرات الاستكشاف في سماء المنطقة بحثا على المجاهدين وتحديد مواقعهم، وبعد عدة طلعات لم يتمكن العدو من تحديد مواقع المجاهدين وبطريقة مفاجئة بدأ جيش التحرير القتال.

يبدو أن التحصينات الطبيعـية كانت لصالح جيش التحرير الوطني، مما أدى إلى إرباك خطط العدو الأمر الذي أدى إلى تراجع العدو إلى الخلف والانسحاب،بعدما ترك خلفه عددا من القتلى والجرحى من جنوده، ونتيجة لخبرة وتجربة عناصر جيش التحرير الوطني غيرت القيادة الأسلوب، فأقرت الالتحام بالعدو لتجنب القصف المدفعي والقنابل الجوية، وبعد انسحاب العدو من المعركة أعاد تنظيم صفوفه وحاصر المنطقة حصارا محكما وأغلق كل المنافذ المؤدية من وإلى الجبل، وهذا ما أحرج عناصر جيش التحرير بعد الصمود والإرادة، لم تتمكن الخروج من الحصار المحكم، خاصة وأن مسالك الانسحاب كانت عارية مما ساعد العدو في رصد الجنود والحق بهم إصابات مميتة وبعد هجمات متفرقة أكد من خلالها جنود جيش التحرير صمودهم في مواجهة قوات العدو، وبقي القتال على هذه الوثيرة حتى حلول الليل الأمر الذي فسح المجال للثوار للانسحاب باتجاه الجنوب.

ومن خسائر هذه المعركة استشهاد 14 جـنـديا من صفوف جيش التحرير الوطني، أما في صفوف العدو، أصيب بخسائر هامة في صفوف جنوده تتمثل في عدد كبير من القتلى والجرحى ونظرا لظروف الحرب حال دون معـرفة عدد القتلى والجرحى، غير أن عدد الطلعات التي قامت بها العموديات في اليوم الموالي للمعركة أكـد على أن عـدد القـتـلى كـبير.

فـبفضل التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الجزائري، الذي عـبّأ كل طاقاته لتحقيق الانتصار والحرية التي تنعم بها الجزائر، والتي خرجت من قبضة مستعمر غاشم سلب أرضها وعمر بها لمدة دامت 132 سنة مدة طويلة ولكنها تجسدت فــيها كل معاني النضال والكــفاح والصمود في وجه العــدو بـمـقاومات شعــبـية ومعــارك.

من اعداد:  ع. أمــيــر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى