
تعود رائحة رمضان القادمة من عبق التاريخ العريق، الحاملة لعادات وتقاليد من سبقونا، ففي ولاية تلمسان ومدينة ندرومة العريقة خاصة يحتفظ سكانها بسلوكات اجتماعية يختص بها أهلها، وخاصة تلك المتعلقة والشائعة في رمضان، وتعود في مجملها إلى القرون الغابرة، حينما كانت تلمسان عاصمة للمغرب الأوسط، إذ تشبعت المنطقة ببعض الميزات التي تبدو جلية في مناسبات كثيرة من خلال التحضيرات الحثيثة التي تجري في حيزها الإجتماعي والإقتصادي المتجلي بالأساس في تجفيف الفواكه كالبرقوق والمشمش والعنب وتحضير العجائن كالرشتة ومختلف المخبوزات وكل ما يصنع من دقيق القمح والشعير، والتي تعتبر ممارسات تقليدية تعود إلى الفترة الممتدة ما بين 1299 م و1307 ميلادي، حسب الباحث التاريخي عمر ديب الذي قال إن التحضير لشهر الصيام كان يتم على شكل إحتفالية بتبادل الأطعمة رغم قلتها وبساطتها حتى أن الأمر وصل بسكان تلمسان قبل هذا باستغلال أوراق الأشجار المثمرة والحشائش في تعطير مأكولاتهم.
تـتـميز مدينة ندرومة كغيرها من المدن الجزائرية بمجموعة من الخصائص كمدينة عريقة عراقة آثارها، فهي مدينة العلم والفن، وعلى الرغم من اختلاف عاداتها نوعا ما، فهي تجتمع في العادات التي تميّز أغلب الأسر الجزائرية كإعداد طبق الشربة أو الحريرة كما يطلق عليه لدى العائلات الندرومية، ويحضّر غالبا بالخضر أو الفريك الذي يتم جلبه مبكرا من طرف ربات البيوت من أجل تجفيفه وتمليحه بغرض استعماله خلال الشهر الكريم، إلى جانب طبق البوراك الرئيسي في رمضان أو الديول كما يحلو للندروميين تسميته، فلا يكاد يخلو أي بيت جزائري منه، ومثله العائلات الندرومية، وعادة ما يتم تحضيره باللحم المفروم والمعدنوس والبطاطا والبصل، لتفقس عليه بيضة ثم يتم قليه وتقديمه ساخنا في وجبة الإفطار.
هذا ويـبـدأ الناس في استقبال رمضان بتنظيف المساجـد وفرشها بالسجاد، وتزيينها بالأضواء المتعددة الألوان، كما تبدو مظاهر هذا الاستعداد بتنظيف البيوت وتزيينها، إضافةً إلى تحضير بعض أنواع الأطعمة الخاصة برمضان كـ “المقطفة ولسان الطير” وبعض أنواع الحلوى الرمضانية ويتم فتح محلات خاصة لبيع الحلويات الرمضانية كـ “الزلابية والبنان”، وقـبل قدوم شهر رمضان ترى الأهالي يبدؤون بإعادة طلاء المنازل ترحيبا برمضان الكريم وشراء كل المستلزمات الواجب توفيرها لهذا الضيف العزيز، وتبدأ ربات البيوت في تحضير مختلف أنواع التوابل، وكل ما يستوجب توفيره لمائدة رمضانية تليق بالعائلة وبالضيوف الذين سيشاركونهم الإفطار خلال الشهر كله، كما يحظى الأطفال الصائمون لأوّل مرة باهتمام ورعاية كبيرتين من طرف ذويهم تشجيعا لهم على الصبر والتحمل والمواظبة على هذه الشعيرة الدينية وتهيئتهم لصيام رمضان كامل مستقبلا، حيث يتم خلال يوم أوّل من صيام الأطفال الذي يكون حسب ما جرت به العادة ليلة النصف من رمضان أو ليلة 27 منه إعداد مشروب خاص يتم تحضيره بالماء والسكر والليمون مع وضعه في إناء (مشرب) بداخله خاتم من ذهب أو لويزة ذهبية أو فضية من أجل ترسيخ وتسهيل الصيام على الأبناء مستقبلا، علما أن كل هذه التحضيرات تجري وسط جو احتفالي، بحضور الوالدين والجد والجدة وأفراد آخرين من الأسرة والأقارب، وهذا تمسكا بعادات وتقاليد أجدادهم والسير على درب السلف الأطفال الذين يصومون لأول مرة تقام لهم احتفالات خاصة، تشجيعا لهم على الصوم وترغيبا في الشهر الكريم ويحظون بالتمييز من أجل دفعهم للمواظبة على أداء فريضة الصيام، فالبنات يلبسنهن لبسة الشدة أو أفضل ما لديهن من ألبسة ويجلسن كملكات وسط احتفال بهيج بصيامهن ،كما تقدم لهم النقود تشجيعا لهم على مواصلة الصيام، وتختلف مناطق الوطن في القيام بهذه العادة، وسط جوّ أسري يحفزهم على المحافظة على فريضة الصوم.
ويبدأ الإفطار عـند أهل الندروميين بالتمر والحليب، ويتبعـون ذلك تناول “الحريرة” وهي مطبوخة إما بلسان الطير أو المقطفة أو دقيق الشعير، وهي منتشرة عبر أرجاء الجزائر الوجبة الرئيسة والأساسية في كل البيوت تتكون من الخضار واللحم أي نوع من الخضار يمزج بمرق اللحم المحتوى على قطع اللحم، طعام آخر يتناوله الجزائريون في هذا الشهر بكثرةَ السَّلَطات بأنواعها، كما تحضر ربة الأسرة أنواع خبز الدار لاسيما بالسمن، لكن لابد من ذكر المرق بالبرقوق المجفف، أو الزبيب مع اللوز ولحم الغنم، ويضاف إليهما قليل من السك، ويكون مرقةً ثخينًا، في كثافة العسل، والتي يجب أن تتواجد في اليوم الأول من رمضان على مائدة الإفطار، ومن لم يفعل ذلك فكأنه لم يُفطر ويضاف إليهما قليل من السكر، بحيث تكون مرقةً ثخينًة، ككثافة العسل بعد تناول طعام الإفطار، يأتي دور شرب القهوة متبوعة بتناول الحلوى كالزلابية أوالبنان أوالهريسة (الشامية)، أما في السحـور فيتناول أهل ندرومة طعام يعتبر من عناصر المائدة الجزائرية لا سيما وقـت السحور، يعرف بطبق “السفة” وهو نوع من الكسكسي بدون المرق بالقرفة والسكر، واللبن، وهذا النوع من الطعام أصبح عادة لكل الجزائريين في سحورهم بعد الإفطار تدب الحركة عبر طرقات ودروب المدينة إذ يتوجه البعض إلى بيوت الله لأداء صلاة التراويح، ويقبل آخرون على المقاهي وزيارة الأقارب والأصدقاء للسمر وتبادل أطراف الحديث في جـو لا تخلو، منه الفكاهة والمرح والتلذذ بارتشاف القهوة أو الشاي حتى انقضاء السهرة في انتظار ملاقاة أشخاص آخرين في السهرات المقبلة، أمـا اليوم السابع والعشرون من شهر رمضان فيختص بعادات خاصة، حيث يكثر المسلمون فيه من الذكر والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم والدعاء تقربا إلى الله تعالى، كما يعكف الأولياء على عملية ختان أو ما يعرف عند العامية بــ “الطهارة” أبنائهم في هذا اليوم في جو احتفالي بحضور الأقارب والأحباب لمشاركتهم أجواء الفرحة وتحضر بهذه المناسبة أشهى الأطباق والحلويات وترتدي فيه النساء أجمل الألبسة التقليدية كالكاراكو وتخضيب الأيادي بمادة الحناء كما تفرش المنازل بأبهى وأجمل الأفرشة.
…وللجانب الديني مكانة لدى الندروميين
وإذا كانت التحضيرات المنزلية هي أكثر ما يتناوله الناس، إلا أن سكان تلمسان يولون للجانب الديني اهتماما لا يقل عن سابقه، ففي الزمن الماضي وبالضبط في العهد الزياني ذاع صيت التنافس على شرح الفقه والسيرة النبوية وتحضير النفس وتقويتها على حفظ القرآن الكريم، فيما جعلوا من أوقات النهار لدراسة الطب والجبر والهندسة وتشجيع الصغار وتدريبهم على الصوم، كما يتنافس المصلّـون في ندرومة على تأدية الشعائر الدينية وهذا بالإكثار من الصلوات وتلاوة القرآن أثناء الليل وأطراف النهار ناهيك عن إعمار المصلين المساجد في أوقات الصلاة وصلاة التراويح وقيام الليل وحتى خارج أوقات الصلاة ويعد شهر رمضان حسب أغلبية العائلات الجزائرية المسلمة الشهر الوحيد الذي يلتفوا حول مائدة إفطاره كل أفراد العائلة الصائمين في وقت واحد وفي جو عائلي حميمي لتناول مختلف أنواع المأكولات التي يشتهر بها المطبخ الندرومي.
ويرتبط تاريخ ندرومة العريقة في تلمسان بتاريخها الإسلامي الحافل وحسن تخليدها واحتفاء أهلها بالمناسبات الدينية، ومنها الاستعداد لشهر رمضان الذي بوأها مكانة ضمن خيرة مدن وعواصم الحضارة الإسلامية خلال العصر الوسيط، مما ساهم في نبوغ شخصيات تاريخية ساعدت على تشييد معالم دينية وفكرية وعلمية بها لاتزال شاهدة على رقي فن العمارة إلى يومنا هذا، وكان لذلك الأثر الكبير في حفاظ أهل ندرومة على سيرة أجدادهم، حيث استطاعت مدينة ندرومة أن تحافظ على طرازها المعماري الإسلامي في الأحياء السكنية القديمة وأسلوب البناء للعديد من المنازل الفردية الحديثة وتقدّم للباحثين مثالا واضحا للمدينة الإسلامية النموذجية، حيث يتوسّط الجامع الكبير بمئذنته الشامخة الأحياء القديمة وبجواره الساحة العمومية الرئيسية “التربيعة”، حيث يلتقي المصلون والمواطنون على حسائر المقاهي أو حول الطاولات تحت ظلّ الأشجار خلال أيام الجمعة وأيام الأعياد والمناسبات الدينية وفي أوقات المساء والعطل، وقرب المسجد الكبير الحمام البالي أو القديم بنفس الساحة التي تنطلق منها الأزقة والشوارع الضيقة المؤدية إلى مختلف الأحياء الشعبية المحيطة بها والأسواق والمحلات التجارية المنتشرة بها.
مسـاجـــد ندرومة
منارة للعلم وصورة معاصرة للعمارة الإسلامية
شيـّد المسجد الكبير لمدينة ندرومة سنة 1081م من طرف يوسف بن تاشفين في عهد المرابطين، ويعدّ من أقـدم مساجد الجزائر، إلى جانب مسجد تلمسان عام 1082م والمسجد الكبير لمدينة الجزائر العاصمة سنة 1096م، أما مئذنة الجامع الكبير لمدينة ندرومة فقد تمّ بناؤها في عهد الموحدين سنة 1348م، وهناك أيضا العديد من المساجد القديمة التي بنيت في نفس الفترة، مثل مسجد القدارين بحي بني زيد الذي تمّ تشييده في عهد الدولة الموحدية ومقام سيدي بوعلي ومسجد سيدي منديل ومسجد سيدي سياج الأندلسي ومسجد سيدي سعيداني بحي بني عفان ومقام سيدي البجاوي، بالإضافة إلى قصر السلطان الموحدي، ومسجد عبد المؤمن بن علي الذي يعتبر من أروع وأجمل المساجد ببلادنا ومن بين أقدمها على الإطلاق.
يتموقع مسجد عبد المؤمن بن علي في ناحية جد إستراتيجية بالقرب من تجزئة محمد بن علي أو ما يعرف عند أهل ندرومة باسم فروجة، وهو مكان يسمح لعامة الناس بولوجه وأداء فرائض الصلاة به وليس هذا فحسب، بل هو مزار للمهتمين من الباحثين وزوّار وسياح المنطقة، وهو مسجد حديث النشأة والإنجاز، مما يجعله شكلا ونمطا متكاملا مع فن العمارة بندرومة التي تفنن فيها الموحدون سابقا. وقد تم الشروع في إنجازه في شهر مارس من عام 2006، بمبادرة من أحد المحسنين المسمى بن علي محمد ـ رحمه الله ـ وبمباركة ودعم من أهل المنطقة، حيث تكفّل بن علي بكل الأمور اللازمة، وأخذ على عاتقه مسؤولية توفيرها من مواد للبناء ومعدات وطاقات بشرية، بما في ذلك أرضية واسعة لتشييده، قبل أن يلقى ربه قبيل أشهر معدودات من انتهاء أشغاله، حينها تكفل أحد إخوته بإتمامه، وتطلّب إنجاز المسجد مبلغا معتبرا من الأموال وصل إلى أزيد من 08 ملايير سنتيم بكافة تجهيزاته ومرافقه، وهو يتربع على مساحة قدرها 1018 مترا مربعا، منها 800 متر مربع مبنية، بما في ذلك قاعة الصلاة، ويتكوّن من طابقين أساسيين أحدهما سفلي وآخر علوي، ناهيك عن مدرسة قرآنية تقدّم رسالتها النبيلة وفضاءات الوضوء ومغسل الموتى، وفيه أيضا غرفة لحفظ الجثث مجهّزة بوسائل تبريد حديثة يتم استعمالها عند الضرورة، إضافة إلى قاعات الصلاة للرجال وأخرى للنساء وسكن وظيفي ومنارة مشيّدة على الطراز المعماري الإسلامي المحلي العريق، وتقدّر طاقة استيعابه بما لا يقلّ عن 2700 مصل، وهو رقم كبير ومعتبر للغاية مقارنة بالمساجد الأخرى المتواجدة بندرومة، لاسيما العريقة منها، وحتى مساجد البلديات المجاورة، كما يحتوي المسجد على بئر خاصة به، مما يجعل الماء متوفّرا على مدار 24 ساعة كاملة ومضخة تستعمل في حالة الطوارئ، عندما تفيض المياه على المسجد وتستعمل في أغراض أخرى، يتم تخزينها لتجنب ضياعها.
ع. أمــيـر