
بدايات الذكاء الاصطناعي تعود إلى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ العلماء في التفكير في إمكانية تطوير أنظمة تقوم بمحاكاة الذكاء البشري. في عام 1956، نظمت ورشة عمل في دارتموث كوليج تحت عنوان “الذكاء الاصطناعي: مقترحات لدراسة اللغة والتعرف على الأنماط في آلات”، وهي الورشة التي اشتهرت بأنها بداية الذكاء الاصطناعي كمجال علمي.
خلال هذه الفترة، قام العلماء بتطوير العديد من النماذج الأولية للذكاء الاصطناعي، مثل نظام الذي طوره هربرت سايمون وألان نيويل في عام 1955، والذي كان يستخدم لإثبات النظرية الرياضية. وفي عام 1956، طور “جون مكارثي” نظام الذي كان يهدف إلى إنشاء برنامج يتمكن من حل مجموعة متنوعة من المشاكل، مع مرور الوقت، تطورت الأفكار والتقنيات في مجال الذكاء الاصطناعي، وتم تطوير العديد من الخوارزميات والنماذج التي تمثل التفكير البشري في الكمبيوتر. على سبيل المثال، في عام 1997، فاز البرنامج الذي طورته شركة في مباراة الشطرنج ضد بطل العالم غاري كاسباروف، وهو حدث تاريخي أظهر قدرة الحواسيب على التفوق في مجالات تعتبر تقليديةً للذكاء البشري،باستمرار التطور التكنولوجي، تقدمت التقنيات المستخدمة في الذكاء الاصطناعي بشكل كبير، وبدأت الآلات تتعلم من البيانات وتحسن أداءها بشكل ذاتي. بفضل التقدم في مجالات مثل علم البيانات وتعلم الآلة، أصبح بالإمكان تطوير نماذج أكثر تعقيدًا وفعالية للذكاء الاصطناعي،الرياضيات كانت ومازالت عاملًا أساسيًا في تطوير الذكاء الاصطناعي، حيث تستخدم العديد من الخوارزميات الرياضية في عمليات التفكير والتعلم واتخاذ القرارات. على سبيل المثال، تستخدم تقنيات الجبر الخطي والاحتمالات في العديد من النماذج التنبؤية وتحليل البيانات. ومن خلال تطوير هذه الأسس الرياضية، يمكن للعلماء والمهندسين تطوير تطبيقات ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا وفاعلية.
القرن التاسع عشر والبدايات
نظرية الجبر البولياني التي قدمها جورج بول في القرن التاسع عشر تعتبر حجر الزاوية في تطوير الذكاء الاصطناعي. فهذه النظرية تسمح بتمثيل المعلومات والعمليات اللوجيكية باستخدام قيمتين فقط: صحيح (ممثلة بالرقم 1) وخطأ (ممثلة بالرقم 0). وهذا المبدأ أساسي لعمل الحواسيب والأنظمة الذكية فيما بعد،باستخدام الجبر البولياني، يمكن تمثيل العمليات اللوجيكية مثل العمليات الرياضية، مما يفتح الباب أمام تطبيقات واسعة في علوم الحاسب والذكاء الاصطناعي. فمثلاً، يمكن تمثيل الدوال اللوجيكية باستخدام العمليات البوليانية، مما يسمح بتطوير نماذج رياضية للأنظمة الذكية وتطبيقاتها،نظرية الجبر البولياني لها أثر كبير في تطور الحوسبة والذكاء الاصطناعي، إذ أنها ساهمت في تطوير العديد من الأسس والمفاهيم الأساسية في هذه المجالات، مثل مفهوم البوابات المنطقية والعمليات اللوجيكية، التي تعتبر أساسية في بناء الحواسيب وبرامجها،بهذه الطريقة، يمكن القول إن نظرية الجبر البولياني كانت البذرة الأولى لتطور الذكاء الاصطناعي، حيث فتحت الأبواب أمام استخدام الحواسيب في تمثيل العمليات اللوجيكية واتخاذ القرارات بناءً على معطيات منطقية، وهو ما يعتبر جزءًا أساسيًا من تطوير الذكاء الاصطناعي والتحليل الذي يتطلبه.
التحديات الجديدة للرياضيات والآفاق المستقبلية
السؤال الذي طُرح والذي يعتبر جوهريًا في هذا السياق هو: هل يمكن تحديد جميع البديهيات والمسلمات الرياضية بشكل صارم ودقيق؟ هذا السؤال يدور حول فكرة قدرة الرياضيات على تمثيل الحقائق الرياضية بناءً على مجموعة محددة من القواعد والأسس، مما يجعلها قابلة للإثبات والتحقق بشكل منطقي ودقيق،على الرغم من أن مبادئ الرياضيات حاولت بناء نظام رياضياتي يستند إلى مجموعة محددة من الأسس والقواعد البديهية، إلا أن السؤال لا يزال قائمًا حول مدى تمكن هذا النظام من تمثيل جميع الحقائق الرياضية وإثباتها بدقة،في الواقع، وبالرغم من أهمية مبادئ الرياضيات ودورها الكبير في تطوير الرياضيات والفلسفة، فإنها لم تكن بمثابة إجابة نهائية على السؤال المذكور أعلاه. فالتحدي الذي يواجهه العلماء هو استكمال هذا المشروع وتحديد مجموعة شاملة من الأسس الرياضية التي يمكن أن تستند إليها جميع الحقائق الرياضية،باختصار، السؤال الذي طُرح حول تحديد الأسس الرياضية بشكل صارم ودقيق لا يزال مفتوحًا للنقاش والبحث في مجتمع الرياضيات والفلسفة، وهو يمثل تحديًا فلسفيًا وعلميًا مستمرًا،نظرية عدم الاكتمال التي قدمها كورت غودل في عام 1931 كانت حقًا صدمة لمجتمع الرياضيين وفتحت آفاقًا جديدة في فهم الرياضيات. هذه النظرية تقول ببساطة أنه في أي نظام رياضي معقد يكون ما يُسمى بالحقائق غير قابلة للإثبات داخل النظام نفسه. وهذا يعني أن هناك بعض العبارات الصحيحة داخل النظام لا يمكن إثباتها داخل النظام نفسه،هذه النظرية لها تأثيرات عميقة على الرياضيات وعلى العلوم بشكل عام، حيث قدمت نظرة جديدة تمامًا على مفهوم الحقيقة والإثبات في الرياضيات. ألهمت هذه النظرية العديد من العلماء والباحثين لاستكشاف مجالات جديدة في الرياضيات، وهي تعتبر إحدى الأفكار الأساسية في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي،جون فون نيومان وآلان تورنغ هما من الشخصيات الرئيسية التي أثرت فيهما نظرية عدم الاكتمال. فنيومان ابتكر نظرية الألعاب، التي تتناول دراسة السلوك الاستراتيجي في الألعاب وتطبيقاتها في مختلف المجالات بما في ذلك الاقتصاد وعلم الحاسوب. أما تورنغ، فقد سعى إلى فهم حدود القوة الحسابية للآلات، وقد ساهمت أفكاره في بناء الأسس النظرية للذكاء الاصطناعي وتطوير الحوسبة،بهذه الطريقة، نرى كيف أثرت نظرية عدم الاكتمال على تطور العلوم وفتحت آفاقًا جديدة في فهم العالم من حولنا،صحيح، لقد كان لنظرية عدم الاكتمال لغودل تأثير عميق على مجال علوم الحاسوب. فهذه النظرية أظهرت أن هناك قيودًا على قدرة الحواسيب والبرمجيات في حل بعض المسائل. وبالتالي، فإن الاعتراف بهذه القيود يمكن أن يوجه الجهود والموارد نحو مسائل يمكن حلها بشكل أكثر فعالية،على سبيل المثال، في مجال الحوسبة، يساعدنا فهم نظرية عدم الاكتمال في تحديد أي المسائل يمكن حلاها بواسطة الحواسيب والبرمجيات، وأي المسائل قد تكون خارج نطاق قدراتها. وهذا يمكن أن يوجه استثمارات البحث والتطوير نحو القضايا ذات الأهمية القصوى وتجنب استنزاف الموارد في محاولة حل مشاكل غير قابلة للحل، بالإضافة إلى ذلك، تشجيع الوعي بقيود الحوسبة يمكن أن يدفع إلى التفكير الإبداعي في تطوير حلول بديلة أو في استخدام تقنيات أخرى للتعامل مع المشاكل التي لا يمكن حلها بسهولة باستخدام الحواسيب التقليدية،إذاً، يمكن القول إن نظرية عدم الاكتمال لغودل لها دور مهم في توجيه تطور علوم الحاسوب وتحديد الطريقة التي يتعامل بها الباحثون والمطورون مع تحديات الحوسبة في العصر الحديث.
الأخطاء في نص أحد المسائل يفتح آفاقًا جديدة
تاريخ آلة تورنغ ودورها الحاسم في حرب الشيفرات يعد واحدًا من النقاط الفارقة في تاريخ الحوسبة وعلوم الحاسوب. بفضل هذه الآلة الرائدة، تم تقديم دليل قاطع على قدرة الآلات على تنفيذ العمليات الرياضية والمنطقية بدقة وسرعة، وهو مفتاح فهم جوهر الحوسبة الحديثة،بالإضافة إلى دورها البارز في فك شيفرة إنجما، ساهمت آلة تورنغ في توسيع الفهم لدى العلماء والمهندسين بشأن قدرات الحواسيب والآلات الرقمية في مجالات مختلفة، بما في ذلك تحليل البيانات والتحليل الرياضي والمحاكاة. وبفضل تفوقها في أداء المهام المعقدة، فتحت آفاقًا جديدة للاستخدامات المحتملة للحوسبة، بما في ذلك تحليل الألعاب والتطبيقات العلمية والهندسية،من خلال إظهار قدرة الآلات على إجراء عمليات الرياضيات والمنطق بشكل آلي، أسهمت آلة تورنغ في بناء الثقة في قدرة الحواسيب على تنفيذ مهام معقدة بدقة عالية، مما ساهم في تطوير وتقدم مجال علوم الحاسوب بشكل كبير في العقود اللاحقة.
أول شبكة عصبية اصطناعية
إن استخدام النماذج العصبية الاصطناعية في بناء الذكاء الاصطناعي كان خطوة هامة في تطور المجال، حيث أتاحت هذه النماذج إمكانية تمثيل وتحليل البيانات لتعلم الآلي”دي ال”،بفضل أبحاث العلماء مثل وارن ماكولوتش ووالتر بيتس، تمكن الباحثون من فهم أفضل لكيفية عمل الخلايا العصبية في الدماغ البشري واستيحاء الفكرة لبناء الشبكات العصبية الاصطناعية،ومع استمرار التطور في هذا المجال، بدأ العلماء مثل أرثر سامويل بتطبيق هذه الفكرة على مجالات محددة مثل الألعاب. بفضل برنامج سامويل للداما، تمكنت الآلة من تعلم اللعبة بنفسها، مما أثبت قدرة النماذج العصبية الاصطناعية على التعلم والتكيف مع البيئة،هذه الأبحاث والتطبيقات ساهمت في إرساء أسس مجال تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي، وساهمت في تطور التقنيات التي نستخدمها في الوقت الحالي لبناء النماذج العصبية الاصطناعية وتطبيقاتها في مجالات متعددة.
تكاتف الجهود ومحاولة توحيد المصطلحات
تجسدت جهود الباحثين في تطوير مفاهيم الذكاء الاصطناعي والبحث عن طرق لقياسه من خلال الاختبارات المثل تلك التي أقترحها آلان تورنغ. ومن المهم أن نلاحظ أن تحديد المصطلحات المناسبة للمفاهيم الجديدة يلعب دورًا هامًا في تقدم المجال العلمي، ولهذا السبب أصبح تحديد مصطلح “الذكاء الاصطناعي” في ورشة العمل بجامعة دارتموث في عام 1956 خطوة مهمة في توحيد المفاهيم وتشجيع التفكير والبحث في هذا المجال،بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام الشبكات العصبية الاصطناعية في حل المشكلات العملية مثل إزالة صدى الصوت من المكالمات هو مثال واضح على كيفية تطبيق الأبحاث العلمية على الحياة اليومية. بدأت الشبكات العصبية الاصطناعية تظهر كأداة فعالة في حل مجموعة متنوعة من المشكلات في مختلف المجالات، مما ساهم في تعزيز الثقة في فعالية تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعميمها في المجتمع،بهذه الطريقة، جمعت الجهود المشتركة بين العلماء والباحثين من مختلف التخصصات والمجالات لتطوير المفاهيم والتقنيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، مما أسهم في تقدم هذا المجال وتحقيق تطبيقات عملية تفيد المجتمع بشكل مباشر.
يتبع…
إعداد: جلال يياوي