تكنولوجيا

“مارك زوكربيرغ” يؤكد توديعه للهاتف الذكي

عصر جديد من الاتصال يرتسم في الأفق

لأكثر من عقد ونصف، ظل الهاتف الذكي بوابة الإنسان إلى العالم الرقمي، وجهازاً محورياً لا يمكن الاستغناء عنه في تفاصيل الحياة اليومية، من الاتصالات والعمل، إلى الترفيه والتواصل الاجتماعي. ولكن ما كان ينظر إليه يوماً كثورة في التقنية، بات اليوم – بحسب ما يراه مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” – يقف على أعتاب الزوال.


تصريحات “زوكربيرغ” الأخيرة حول قرب نهاية عصر الهواتف الذكية ليست مجرد تمنيات أو تسويق لمشروعات شركته، بل تعكس رؤية متكاملة لحقبة قادمة تتجاوز “الشاشة”، وتطمح إلى بناء عالم رقمي أكثر سلاسة، حيث تدمج التقنية في الجسد والبيئة المحيطة بدلاً من احتجازها في راحة اليد.

قبل سنوات، كان جهاز “الآيبود” يتربع على عرش مشغلات الموسيقى، إلى أن دخل الهاتف الذكي – كما تنبأ بيل غيتس – ليحل مكانه ويقدم تجربة متعددة الوظائف. تنبؤات غيتس لم تكن محض صدفة، بل نتاج قراءة دقيقة لموجات التغيير التقني. واليوم، يبدو أن “زوكربيرغ” يسير على نهج مشابه، متوقعاً أن تقنيات الواقع المعزز سترث عرش الهاتف الذكي.

المثير للاهتمام أن التشابه بين الرؤيتين لا يتوقف عند حدود التوقع، بل يمتد إلى الجرأة في التحدي. فكما رأت مايكروسوفت أن الأجهزة أحادية الاستخدام إلى زوال، ترى “ميتا” أن “الهاتف الذكي” أصبح بدوره عبئاً في عالم يتسارع نحو الاندماج الكلي بين الإنسان والتقنية.

“ميتا” والطموح الكبير

مشروعات “ميتا” لا تقتصر على مجرد تحديث شكل التقنية، بل تسعى إلى تغيير جوهر العلاقة بين المستخدم والعالم الرقمي. نظارات “أوريون” للواقع المعزز، المصممة لتكون بديلاً شاملاً للهاتف، تحمل ملامح هذا التحول الجذري.

فبدلاً من شاشة نحملها وننظر إليها، تصبح العدسات هي الواجهة، والمعصم هو جهاز التحكم، والأوامر تنفذ بالإيماءات أو الصوت. إنها محاولة لتقريب الحلم القديم: عالم رقمي غير مرئي، لكنه دائم الحضور.

أما مشروع “آرتميس”، الذي سيخلف “أوريون”، فيُتوقع أن يكون أكثر ملاءمة لعامة المستخدمين، من حيث الشكل والسعر، ما يعني أن “ميتا” لا تراهن فقط على الفئة التقنية المتقدمة، بل تخطط لثورة اجتماعية تبدأ من الواجهة الرقمية.

الحديث عن استبدال الهاتف الذكي لا يعني بالضرورة إلغاءه، بل إدخاله في منظومة أوسع من أجهزة متكاملة، تتفاعل مع بعضها البعض وتوفر تجربة رقمية غير مجزأة. هذا ما تظهره بوضوح استراتيجية “ميتا” التي تشمل إلى جانب النظارات، ساعات ذكية وسماعات مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

بعبارة أخرى، التقنية تتحول من “جهاز” إلى “بيئة”، ومن “أداة خارجية” إلى “امتداد للذات”. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: في الوقت الذي يبدو فيه أننا نستغني عن الهاتف، نحن في الحقيقة نضاعف ارتباطنا بالعالم الرقمي – ولكن بشكل أكثر خفاء واندماجاً.

رغم الأفق المبشر، يظل هناك من يطرح تساؤلات مشروعة حول هذا التحول. ماذا عن الخصوصية في عالم تلتقط فيه العدسات كل شيء؟ وماذا عن اعتماد المستخدم الكامل على أنظمة معقدة قد تتعطل أو تستغل؟

الإجابة لا تأتي من الشركات وحدها، بل من وعي المجتمعات والمشرّعين والمستخدمين أنفسهم. فكلما زادت قدرات الأجهزة الجديدة، زادت أيضاً الحاجة إلى معايير أخلاقية وتشريعية واضحة لضبط استخدامها.

عودة النوستالجيا أم مقاومة التغيير؟

في مقابل هذا التوجه نحو المستقبل، لوحظ في السنوات الأخيرة عودة لافتة لاستخدام أجهزة قديمة مثل “الآيبود”، لأسباب تتراوح بين الحنين والرغبة في الانفصال المؤقت عن عالم التواصل المستمر. البعض يرى في ذلك مقاومة للتطور، لكن آخرين يرونه بحثا عن التوازن بين التقنية والخصوصية.

هذه العودة لا تناقض اتجاهات الابتكار، بل تبرز أحد أهم خصائص العصر الرقمي: قدرة المستخدم على الاختيار بين البساطة والتعقيد، وبين الانخراط الكامل والانعزال المؤقت. يبقى السؤال الأهم: هل ستنجح “ميتا” في قيادة المرحلة التالية من التحول الرقمي؟ أم ستظهر شركات أخرى تقدم حلولاً بديلة تتفوق في السرعة أو الفاعلية أو القبول الشعبي؟

التجارب السابقة في عالم التقنية تقول إن الرؤية لا تكفي، بل تحتاج إلى تنفيذ دقيق، وشبكة دعم قوية، وقبول واسع النطاق. وهذا ما يجعل السنوات الثلاث المقبلة حاسمة، سواء من ناحية إطلاق المنتجات أو تفاعل المستخدمين معها.

نحن نعيش لحظة شبيهة بتلك التي سبقت انقراض الهواتف العادية، حين لم يكن أحد يتخيل أن جهازاً واحداً يمكنه أن يدمج الهاتف والكاميرا والموسيقى والإنترنت. واليوم، يعتقد روّاد التقنية أن الجهاز الجديد لن يكون واحداً، بل نظاماً متكاملاً يرافق الإنسان دون أن يعي ذلك طوال الوقت.

فهل نحن مستعدون نفسياً واجتماعياً للعالم ما بعد الشاشات؟ يبدو أن الإجابة لم تعد بعيدة، وكل ما علينا فعله هو أن نتابع ما سيحدث، ليس في مختبرات الشركات الكبرى فقط، بل في جيوبنا وحقائبنا ومعاصمنا وعدسات أعيننا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى