
إعداد: الدكتور إبراهيم سلامي
أصبح دمج الذكاء الاصطناعي في مؤسسات التراث الثقافي ضرورة تقتضيها الحاجة من أجل المحافظة به على التراث وتفسيره وعرضه، نظرا للتحولات الرامية للاستفادة من الابتكارات القائمة وكيف يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي أن تساعد في تحليل القطع الأثرية الثقافية وتوثيقها والحفاظ عليها. بفضل التعرف على الصور وتحليل المواد والاستعادة الرقمية، يمكن للذكاء الاصطناعي توفير رؤى قيمة حول التكوين والحالة والسياق التاريخي للقطع الأثرية.
إن مصطلح الذكاء الاصطناعي وربطه بمدلول الثقافة يشير إلى كل ما أنتجه البشر من أفكار، وتصورات، وعادات وتقاليد، ونظم اجتماعية وسياسية، ومدلولات اقتصادية، وفعاليات أدبية فنية هو في الواقع وثيق الصلة بفعل التواصل بين الأفراد، وبين الجماعات المختلفة، وبين الأمم والحضارات في عصرنا هذا، إذ إن الإعلام ليس أداة للتواصل والترويج فحسب، وإنما شريك حقيقي في تكوين الأدوات الفكرية، والمفاهيم والمنظومات، والقيم الفاعلة في إطار الثقافة وانتشارها، بل إن الإعلام يكون مساهمًا، فاعلاً في توليد الثقافة، ونشْر المعرفة، وإدخالهما ضمن آليات الوعي الفردي، لمصلحة التغيير، والمساهمة في التقدم الحضاري.
الذكاء الاصطناعي وتعزيز التفاعل الثقافي
تُعد التقنيات الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، من أهم الأدوات التي يمكن أن تؤدي دوراً بارزاً في حفظ التراث وتعزيز التفاعل الثقافي بين الشعوب والثقافات المختلفة. فمن خلال مزيج من التكنولوجيا والإبداع البشري، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح آفاقًا جديدة لاستكشاف التراث وفهمه وتوثيقه، مما يجعل تجربة الإنسان مع تاريخه وثقافته أكثر إثراء وتجدداً.
ولنجاح هذه التقنيات يجب الاعتماد على الإعلام الثقافي يُقصد به رصد ما يميز الساحة الثقافية من نشاطات وتبليغها للمتلقّي عن طريق الوسائط الإعلامية المعروفة والمتواجدة كالراديو، التلفاز، مواقع التواصل الاجتماعي، الهاتف الجوّال، المجلات والصحافة المكتوبة والالكترونية.
فالهدف الأساس من الإعلام الثقافي هو توصيل المعرفة إلى المتلقّي خاصة لما يوظف فيه التكنولوجيا، حيث الثقافة والإعلام هدفهما واحد، هو مخاطبة الناس، والاتصال بهم عن طريق الصورة، وعن طريق الصحيفة الورقية، وعن طريق الصحيفة الإلكترونية، وكذا عن طريق الصوت، كل ذلك وفْق الوسيلة المتاحة، أو التي يختارها المتلقّي بمحض إرادته، إذْ لا ثقافة بدون إبلاغ وتعبير، وجذب النظر عن محتواها، ولا إعلاما جيّدا دون ثقافة تؤازره، وتشدّ من أزْره، علمًا أن وسائل الإعلام وبخاصة في أيامنا هذه بقدْر ما هي وسيلة للتبليغ، والتنوير، فإنها وسيلة هامة لنشر الثقافة، وتلاقح الأفكار، والتواصل بين الأمم والحضارات شرقا وغربا، وتقريب المسافات بينها.
ثنائية الذكاء الاصطناعي باستخدام الإعلام الثقافي المتخصص والجمهور النوعي
يؤدي الذكاء الاصطناعي بالاعتماد على الإعلام الثقافي دورًا فاعلاً في حفظ التراث وتقديمه للناس بصورة ممنهجة ومنظمة، وأن هناك مستوى آخر من استخدامات الذكاء الاصطناعي، تشمل كيفية جعل هذا التراث فاعلاً في حياتنا، بحيث لا نكتفي بجمع التراث وتنظيمه فحسب، بل أن ننتقل إلى مستوى أعمق ونجعل هذا التراث فاعلاً في حياتنا اليومية. وهنا يكمن دور الإعلام الثقافي المتخصِّص لما يكون مصحوب بالتقنيات الحديثة الذي يعالج الأحداث والظواهر والتطورات الحاصلة في الحياة الثقافية، ويتوجه أساساً إلى جمهور نوعي مَعْني ومهتم بالشأن الثقافي، يظهر الإعلام الثقافي في مرحلة معينة من تطور الحياة الثقافية، ويسعى لمواكبة هذه الحياة، والتفاعل معها، كما أن الإعلام الثقافي يعكس مستوى تطور، ونضج الحياة الثقافية ذاتها.
ثم إن مجال الإعلام الثقافي المتخصِّص هو رصد وعرض، وتحليل، ونقد النتاج الثقافي يكل مكوناته، ذاك أن المفهوم العلمي للثقافة واسع وعريض، إذ الثقافة تعني كل ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة من فكر، وعلم، وإبداع، وإنشاء في كل مناحي الحياة الإنسانية… الخ. ولكن المفهوم الأكثر استخداماً وانتشاراً، يكاد يقصر الثقافة على فعاليات محدِّدة مثل الفكر، والأدب، والفن، والمسرح، والسينما، والموسيقى. ومن هنا فإن المنتوج الثقافي بكل صوره وأشكاله يتداخل مع الإعلام في ترابط وثيق، وتداخل مستمرٍّ، ذلك أن هذا المنتوج يفترض أن يجد الدعم من وسائل الإعلام في الترويج له، وتوسيع دائرة المتلقّين والمستفيدين منه ممّا يسمح بحركية ثقافية إعلامية، ونهوض متوازٍ لكلاهما لترابط بنيتهما التحتية.
أهمية التراث في تعزيز الاقتصاد وزيادة معدلات التنمية
يساهم التراث في تعزيز الاقتصاد وإنعاشه، وخاصةً الاقتصاديات المحلية الحديثة المبنية على المعرفة والتكنولوجيا التي أظهرت أهمية التراث، كما يساعد التراث على زيادة معدلات التنمية في البلاد، وزيادة تداول النقد الأجنبي، وزيادة الخبرات التدريبية والتي تساهم في تعزيز التنمية الإقتصادية والإجتماعية، حيث يعتبر التراث رمزاً للهوية الإنسانية الخاصة بالشعوب المختلفة، وخاصة الجماعات الأقلية التي تعتبره رمزاً للمعرفة والقدرات التي توصلت لها، والتي تناقلته وأعادت تكوينه، وتعتبره رمزاً مرتبطاً بالأماكن الثقافية التي لا يمكن التخلي عنها، حيث يساهم التراث في تعزيز الروابط ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، كما أنّه يساعد على استمرارية المجتمعات، وتغيير هيكل المجتمع ليصبح أكثر سمواً ورفعة، ويحتل التراث مكانة مهمة في حياتنا، لما له من رابط عجيب في زيادة التماسك الإجتماعي والمساعدة على تعزيز السلام ما بين الجميع، وذلك من خلال دوره في تعزيز الثقة والمعرفة المشتركة، وتعترف اليونيسكو بأهمية زيادة الوعي حول التراث، من خلال إنشاء الوكالات والمؤسسات التي تزيد الوعي بين الناس بأهمية التراث من أجل المحافظة عليه.
الاستعادة الرقمية للتراث الثقافي المادي واللامادي وتناقله بين الأجيال
استعادة التراث الرقمي الثقافي هو تعبير عن سبل المعيشة وضعت من قبل المجتمع وانتقلت من جيل إلى جيل جديد يعتمد على التكنولوجيا الجديدة، بما في ذلك من الممارسات، الأماكن، الأجسام، التعبيرات الفنية والقيم، فغالبا ما يتم التعبير عن ذلك بالتراث الثقافي والذي يتمثل فيما يلي:
(01)- التراث الثقافي: هو ميراث المقتنيات المادية وغير المادية التي تخص مجموعة ما أو مجتمع لديه موروثات من الأجيال السابقة، وظلت باقية حتى الوقت الحاضر ووهبت للأجيال المقبلة. التراث المادي يشمل المباني والأماكن التاريخية والآثار والتحف وغيرها، التي تعتبر جديرة بحمايتها والحفاظ عليها بشكل أمثل لأجيال المستقبل. ويدل الحفاظ عليها على اعتراف ضمني بأهمية الماضي، والدلالات التي تسرد قصتها
(02)- التراث الثقافي غير المادي: يعتبر الحفاظ على التراث غير المادي هو حماية الهويات الثقافية، وبالتالي التنوع الثقافي للبشرية. ويشمل التراث غير المادي على سبيل المثال لا الحصر المهرجانات التقليدية والتقاليد الشفهية والملاحم، والعادات، وأساليب المعيشة، والحرف التقليدية، وما إلى ذلك. فقد أصبح واحداً من أولويات اليونسكو في المجال الثقافي. لقد اتسع نطاق مفهوم التراث الثقافي بشكل كبير خلال القرن الماضي، وقد ساهم اليونسكو بشكل كبير في تحقيق هذا التوسع، والذي يشمل حالياً المناظر الطبيعية، الآثار الصناعية، وأشكال أخرى مختلفة لها صلة بمفهوم التراث العالمي أو التراث المشترك بين البشر. ويبقى في الأخير التراث من الموضوعات التي ظلت متداولة منذ عقود بين الأجيال وأصبح الاهتمام به حاليا مرتبط بالذكاء الاصطناعي، هذا التراث الذي يظل قائم ويمثل ذاكرة الأمة، فهو نواة المفهوم الجديد للتراث العالمي الذي تضمنته اتفاقية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972، والتي وضعت بنودها منظمة اليونسكو، مما يعني أن هناك اهتماما متزايدا أمميا بالتراث وهناك محاولات مستمرة لإحيائه والمحافظة عليه بفضل التكنولوجيا الحديثة.