تكنولوجيا

كيف سيغيّر بروتوكول IPFS مستقبل الإنترنت اللامركزي؟

يشهد العالم الرقمي اليوم نقاشا واسعا حول مستقبل الإنترنت، وخصوصا بعد ظهور تقنيات جديدة تهدف إلى جعل الشبكة أكثر حرية وأمانا واستقلالية. ومن بين هذه التقنيات بروتوكول يعرف باسم IPFS، وهو اختصار لفكرة بسيطة لكنها ثورية: جعل الإنترنت لامركزيا. قد يبدو الاسم تقنيًا، لكن جوهر الفكرة سهل الفهم. فبدل أن يعتمد المستخدم على خادم واحد لتحميل موقع أو مشاهدة فيديو، يعمل IPFS على توزيع المحتوى عبر عدد كبير من الأجهزة حول العالم، بحيث يصبح الوصول إليه أسرع وأكثر استقرارًا وأصعب على الرقابة والحذف. هذه الفكرة، جعلت الكثير من الخبراء يعتبرون أن IPFS قد يكون واحدا من أسس الإنترنت الجديد في السنوات المقبلة.

 

عبر الإنترنت التقليدي، يكون لكل موقع عنوان مرتبط بخادم موجود في مكان محدد. وعند زيارة هذا الموقع، تنتقل البيانات من ذلك الخادم مباشرة إلى جهازك. هذه الطريقة تُعد الأساس الذي بُني عليه الإنترنت منذ بداياته، لكنها تعاني من مشكلات عديدة؛ أبرزها الأعطال التي تتسبب في توقف مواقع كاملة عن العمل، والضغط الكبير على الخوادم، إضافة إلى سهولة حجبها أو التحكم بها من طرف واحد. أماIPFS فيأتي ليقدم نموذجا مختلفا تماما، إذ يعتمد على شبكة موزعة يخزن فيها المحتوى لدى عدد كبير من المستخدمين، بحيث لا يعود مرتبطًا بمكان واحد.

 

تغيير العلاقة بين البيانات والمستخدم

وتكمن أهمية IPFS في أنه يغير العلاقة بين المستخدم والبيانات، ففي النظم الحالية، إذا توقّف الخادم الذي يحفظ موقعًا ما، يختفي الموقع بكامله. أما في النظام اللامركزي، فإذا تعطل جهاز من الأجهزة التي تخزن المحتوى، يبقى المحتوى متاحًا لأنه محفوظ لدى أجهزة أخرى. وهذه الفكرة تجعل المواقع أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود. كثير من المؤسسات العالمية التي تهتم بحفظ البيانات التاريخية والمعلومات المهمة بدأت تعتمد هذا النموذج لتأمين ملفاتها للأجيال القادمة، خصوصًا تلك التي كانت معرضة للحذف أو الضياع.

ولا يقتصر الأمر على الاستقرار فقط، بل يمتد إلى السرعة أيضًا، فبدل أن ينتظر المستخدم تحميل البيانات من خادم واحد قد يكون بعيدًا جغرافيًا، يمكنه تحميلها من أقرب الأجهزة إليه المشاركة في الشبكة. ما يعني أن تحميل الصور والفيديو والمحتوى سيصبح أسرع وأكثر سلاسة، خصوصًا في البلدان التي تعاني من ضعف الإنترنت أو الضغط الكبير على الشبكات. وهنا تبدو فائدة إضافية: كلما زاد عدد المستخدمين الذين يشاركون في تخزين البيانات عبر IPFS، ازدادت قوة الشبكة وسرعتها.

واحدة من أكبر القضايا التي يناقشها العالم اليوم هي قضية الرقابة على المحتوى، فالكثير من المواقع والمعلومات يمكن حجبها بسهولة عندما تعتمد على خوادم مركزية، وبما أن IPFS لا يرتكز على جهة واحدة، يصبح حجب المحتوى أصعب بكثير، فحتى لو حُجبت نسخة من ملف ما فإن نسخًا أخرى تبقى منتشرة على أجهزة متعددة. هذا لا يعني أنه نظام مُعدّ لنشر المحتوى غير القانوني، لكن يعني أنه يمنح مساحة أكبر لحرية تداول المعلومات، وخاصة المواد الصحفية والإنسانية والعلمية التي تحتاج إلى حماية من الحذف أو التلاعب.

 

مدى تعقيد النظام واستخداماته

وعلى غرار أي تقنية جديدة، قد يبدو IPFS معقدًا من الناحية التقنية، لكنه في الحقيقة يعتمد على 3 خطوات بسيطة يمكن فهمها بسهولة. فكل ملف يتم رفعه إلى الشبكة يُقسّم إلى أجزاء صغيرة، ثم يحصل كل جزء على علامة أو بصمة خاصة تضمن عدم تغييره، وبعدها تُوزع هذه الأجزاء على عدد كبير من الأجهزة. وعندمحاولة تحميل الملف، تجمع الشبكة الأجزاء بصورة تلقائية، مما يسمح بفتح المحتوى بسهولة حتى إن كان خادم واحد قد توقف، هذه الطريقة لا تضمن فقط السرعة، بل تضمن أيضا عدم إمكانية التلاعب بالملفات أو تغييرها دون أن يكتشف النظام ذلك.

وقد بدأ استخدام IPFS بالفعل في مجالات عديدة، فالمكتبات الرقمية وبعض المؤسسات الإعلامية تستخدمه لحفظ أرشيفها وتجنب فقدان مواد مهمة، كما تعتمد عليه تطبيقات كثيرة مرتبطة بالويب اللامركزي وتقنيات البلوك تشين، خاصة تلك التي تمنح المستخدم حق امتلاك بياناته بدل منحها للشركات الكبرى. وحتى بعض منصات التواصل الاجتماعي الجديدة بدأت تتجه لهذا النموذج لضمان استقلالية أكبر للمستخدمين وحماية أكبر لبياناتهم.

ومع انتشار فكرة اللامركزية، بدأت تظهر تساؤلات حول فوائد هذا التحول بالنسبة للمستخدم العادي، وقد يبدو الأمر بعيدًا عنه، لكنه في الواقع يؤثر في حياته الرقمية مباشرة. فالبنية اللامركزية ستساهم في تسريع الإنترنت، لأنها تعتمد على تعدد مصادر المحتوى. كما أنها تمنح المستخدم سيطرة أكبر على ملفاته وصوره وذكرياته، بحيث تصبح أقل عرضة للضياع أو للحذف المفاجئ كما يحدث أحيانًا مع بعض الخدمات التقليدية. إضافة إلى ذلك، توفر اللامركزية نوعًا من الأمان الرقمي، إذ يصبح من الصعب على جهة واحدة التحكم في بيانات ملايين المستخدمين أو استغلالها لأغراض تجارية.

 

تحديات تتطلب وعي المستخدمين ومشاركتهم

ورغم ذلك، يواجه IPFS تحديات ليست بسيطة، فنجاح النظام يعتمد على عدد كبير من الأجهزة المشاركة في تخزين المحتوى، وهذا يتطلب وعيًا أكبر من المستخدمين وحوافز تشجعهم على المشاركة. كما أن القليل من الناس يفهمون معنى اللامركزية أو كيفية عملها، وهو ما يجعل انتشار التقنية بطيئًا مقارنة بأنظمة معتادة تعتمدها الشركات الكبرى.

وتضاف إلى ذلك، مشكلة أن بعض المستخدمين يدخلون شبكة IPFS من خلال بوابات مركزية تشبه المواقع العادية، وهو ما يقلل من الفوائد الحقيقية للنظام ويعيده بشكل غير مباشر إلى المركزية التي يهدف إلى تجاوزها.

رغم هذه العقبات، يتفق معظم الخبراء على أن نظام الإنترنت الحالي يواجه ضغوطا كبيرة، سواء بسبب حجم البيانات الهائل أو مشكلات الأمان أو سيطرة الشركات الكبرى، ولذلك تبدو الحاجة إلى نموذج جديد أكثر استقلالا ومرونة أمرا طبيعيا. وهنا يظهر IPFS كأحد أهم المرشحين ليكون جزءأساسيا من “إنترنت الجيل القادم”، أو ما يسمى بالويب اللامركزي، وقد بدأت الكثير من المشاريع التقنية تتجه إليه، مما يعني أننا قد نرى تحولًا تدريجيًا في السنوات المقبلة نحو شبكات أكثر توزيعًا وحماية للمحتوى.

لا يمكن القول إن IPFS سيغيّر الإنترنت بين ليلة وضحاها، لكنه خطوة مهمة نحو مستقبل رقمي أكثر حرية وعدالة. هو محاولة لإعادة توزيع القوة داخل الشبكة، بحيث لا تكون المعلومات ملكًا لخوادم محددة أو شركات معينة، بل جزء من شبكة مفتوحة يشارك فيها الجميع. وإذا واصل IPFS الانتشار والدعم، فقد يتحول إلى حجر الأساس لإنترنت جديد يستفيد منه المستخدم العادي قبل غيره، لأنه يمنحه خدمة أسرع وأكثر أمانًا وحرية أكبر في الوصول إلى المعلومات.

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى