
في خضم الثورة الرقمية المتسارعة، بات الذكاء الاصطناعي أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل، ليس فقط لما يقدمه من إمكانات خارقة، بل لما يحمله من مخاطر كامنة تهدد خصوصيتنا، ووعينا، وأحيانا حتى سلوكياتنا اليومية.
ومن بين أبرز أدوات الذكاء الاصطناعي التي أحدثت ضجة كبيرة مؤخرًا، يبرز برنامج “جي بي تي”، الذي يستخدمه الملايين حول العالم، بمن فيهم شباب وفتيات في عمر الزهور، دون وعي حقيقي بمخاطره.
الوجه المظلم للذكاء الاصطناعي
منشورات متداولة على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة “فيسبوك”، دقت ناقوس الخطر بشأن استخدام برنامج “جي بي تي” بطريقة غير مسؤولة، خاصة من قبل الفتيات
. فالبعض، وفقًا لهذه المنشورات، بدأن يتعاملن مع هذا البرنامج كما لو كان طبيبًا نفسيًا، يفرغن له مكنونات صدورهن، ويعتمدن على إجاباته في اتخاذ قرارات شخصية حساسة، مثل العلاقات العاطفية أو المشاكل الأسرية، وهو أمر يطرح إشكالات أخلاقية وعلمية خطيرة.
ويضيف أحد المنشورات أن هناك من يتعاملن مع البرنامج كما لو كان خطيبًا أو زوجًا، يتبادلن معه الحديث دون حدود، في نوع من التعلق العاطفي الرقمي الذي قد يعمق من العزلة الاجتماعية، ويقود إلى اختلال في منظومة المشاعر الحقيقية.
الخصوصية في مهب الريح
من بين أبرز المخاوف المثارة، ما يتعلق بحجم البيانات التي يجمعها هذا البرنامج. إذ يؤكد مختصون أن “جي بي تي” يحتفظ بكل ما يكتبه المستخدم تقريبًا، مما يجعله معرضًا لأن يكون أداة في يد من يريد تنفيذ عمليات احتيال أو ابتزاز رقمي، مستغلًا ما يتوفر من معلومات شخصية حساسة، تم الإفصاح عنها بعفوية أو ثقة زائدة في برنامج لا يمكن وصفه بالإنساني، رغم قدرته على محاكاة التفاعل البشري.
ويبدو أن فئة من المستخدمين، خاصة من المراهقين أو قليلي الخبرة الرقمية، لا تعي تمامًا أن هذه التطبيقات، مهما بلغت من دقة في الإجابة، تبقى برامج تجمع وتحلل البيانات لأغراض تجارية أو بحثية، وقد تكون خاضعة لرقابة شركات أو جهات لا يعرف المستخدم عنها شيئًا.
الوقوع في فخ المظاهر والتحليل السطحي
بعض الفتيات، كما جاء في المنشور المتداول، يرسلن صورًا شخصية للبرنامج، طالبات منه تحليل أذواقهن في الملابس أو مستحضرات التجميل، مما يفتح بابًا جديدًا من المخاطر، يتمثل في استخدام هذه الصور لاحقًا في سياقات غير لائقة، أو توظيفها في حملات دعائية دون علم صاحبتها.
وهنا يتدخل الجانب الأخلاقي مرة أخرى، ليعيد التساؤل القديم الجديد: هل نحن من نستخدم التكنولوجيا؟ أم أن التكنولوجيا أصبحت هي من تستخدمنا؟ وهل باتت “الراحة الرقمية” التي توفرها هذه التطبيقات، تبرر تعرية خصوصياتنا أمام خوارزميات لا ترحم؟
التكنولوجيا لا تُغني عن العقل البشري
من الإنصاف الاعتراف بأن برنامج “جي بي تي” وغيره من أدوات الذكاء الاصطناعي، تقدم خدمات جليلة في مجالات البحث العلمي، الترجمة، التصحيح اللغوي، وتقديم المشورة في المواضيع المعرفية. لكن الإشكال يكمن في سوء الاستخدام، حين يصبح هذا البرنامج مرجعًا فيما لا يُفترض به أن يكون، مثل العلاقات الإنسانية، المشاكل النفسية، أو القضايا الحساسة التي تتطلب تدخل مختصين بشريين يملكون القدرة على الفهم والتعاطف.
فالذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من دقة في صياغة الردود، يفتقر إلى الوعي الحقيقي، والإدراك الأخلاقي، والحس البشري، مما يجعله عاجزًا عن تقديم حلول عميقة وشخصية لمشاكل معقدة تتعلق بالنفس والعاطفة.
دعوة إلى الاستخدام الرشيد
الرسالة الأساسية التي يمكن استخلاصها من هذه التحذيرات، ليست رفض الذكاء الاصطناعي أو الدعوة للانغلاق، بل توجيه المستخدمين نحو وعي رقمي أعمق، يدرك إمكانات هذه التكنولوجيا، ويضع لها حدودًا أخلاقية صارمة. فكما لا نعطي أسرارنا لشخص غريب في الشارع، لا يجب أن نمنحها ببساطة لبرنامج مهما بلغ من “ذكائه“.
وفي هذا السياق، يجب على المؤسسات التربوية والإعلامية أن تضطلع بدور أكثر فعالية في نشر الوعي، وتقديم ورشات ومحاضرات حول الأمن الرقمي، والاستخدام الآمن للتقنيات الحديثة، خصوصًا لفئة المراهقين واليافعين الذين يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات، معرضين لكل أشكال التأثير.
مرة أخرى الذكاء الاصطناعي أداة، لا بديل عن الإنسان
إن كل أداة عظيمة تحمل في داخلها إمكانات للبناء كما للهدم، والذكاء الاصطناعي ليس استثناء. فبينما يمكن أن يكون معينًا في التعلم والتطوير، قد يتحول إلى خطر حقيقي إذا استخدم بجهل أو تهور. لذا فإن التوازن، والوعي، والمرافقة المستمرة للمستخدمين، خاصة الجدد منهم، تبقى ضرورية لتفادي كارثة رقمية قد تكون أثمن ضحاياها: خصوصيتنا، وعقولنا، وإنسانيتنا.