رياضة

“فاشهدوا” في وداع “رشيد مخلوفي”..

ولادة المنتخب الجزائري من رحم "جبهة التحرير"

  • على مدار 4 سنوات، جاب “مخلوفي” وزملاؤه العديد من البلدان، حاملين رسالة الثورة الجزائرية

 

وري ظهر أمس الأحد، جثمان المجاهد وأسطورة فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم، الراحل “رشيد مخلوفي”، بمقبرة العالية بالعاصمة. وكان جثمان فقيد الكرة الجزائرية، قد وصل ليلة السبت، إلى مطار هواري بومدين، واستقبله وزير المجاهدين وذوي الحقوق “العيد ربيقة”، رفقة أسرة الفقيد وأقاربه وعدد من أصدقائه.

وتوفي الأسطورة “رشيد مخلوفي” عن عمر يناهز 88 عاما، تاركا خلفه إرثا تاريخيا سيظل ممتدا ما دام المنتخب الجزائري يلعب كرة القدم. “مخلوفي” إلى جانب كونه لاعبا تاريخيا ومدربا فائزا بميداليتين ذهبيتين مع الخضر، فقد أسهم بصورة كبيرة في تكوين منتخب الجزائر الأول، أو فريق “جبهة التحرير” في نهايات عصر الاستعمار الفرنسي.

 

مؤتمر الصومام

من هنا بدأت القصة، في العشرين من أوت لعام 1956، اجتمع العديد من أعضاء المنظمة الجزائرية السرية بدعوة من “عبان رمضان” أحد ضباط الصف في الجيش الجزائري. وخلال الاجتماع الذي استمر لعشرة أيام، ناقشوا كيفية استمرار الثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، ليتم الاستقرار على إنشاء جبهة التحرير الوطن، لم تمر سوى أيام قليلة حتى رأى أعضاء جبهة التحرير أن الرياضة أرض خصبة أيضا للنضال، فلماذا لا ننشر قضيتنا مستغلين كرة القدم؟ ومن هنا ظهرت فكرة تأسيس منتخب للجزائر لأول مرة.

وفي إحدى ليالي أفريل 1958، وقف “رشيد مخلوفي”، اللاعب الجزائري الشاب الذي تألق في سانت إتيان الفرنسي، أمام منعطف كبير في حياته ومسيرته. لقد كانت له فرصة تمثيل فرنسا في كأس العالم بالسويد، لكن نداء آخرا كان بانتظاره، لم يستطع إزاءه إلا التلبية، لأنه يتجاوز طموحه الشخصي إلى قضية شعب يريد أن يتحرر. قبل مباراة كانت ستجمع فريقه مع نادي بيزييه، وفق ما يروي على أعمدة صحيفة “لوموند” بتاريخ أفريل 2016، اقترب من “مخلوفي” زميلان جزائريان محترفان، “عبد الحميد كرمالي” من ليون و”مختار عريبي” من راسينغ لنس. طلبهم كان مفاجئا: مغادرة فرنسا والالتحاق بتونس، حيث كان يجري تأسيس منتخب خاص بجبهة التحرير الوطني. كانت الفكرة من ابتكار “محمد بومزراق”، وهدفها الترويج للقضية الجزائرية في ميادين الرياضة كوسيلة للنضال من أجل الاستقلال.

يقول “مخلوفي”: “لم أتردد لحظة واحدة في الاستجابة”، مستحضرا في الأثناء طفولته في مدينة سطيف، حيث عايش مجزرة ماي 1945 التي تركت فيه ألمًا عميقًا ورغبة قوية في النضال من أجل الحرية. عبر مع ذلك، عن بعض القلق لزميله عريبي، على اعتبار أنه يؤدي خدمته العسكرية في فرنسا وذهابه يعني عصيانا. أجابه عريبي ببساطة: “وماذا بعد؟”، وأقنعه أن هذه المخاطرة تستحقها القضية. بعد انتهاء المباراة ضد بيزييه، والتي أصيب فيها مخلوفي في قدمه، كان القرار قد اتخذ. حمله زملاؤه من المستشفى في رحلة سرية بعد التحاق لاعبين اثنين آخرين، ليكتظ الخمسة في سيارة صغيرة من نوع “سيمكا”، عبروا بها الحدود السويسرية ثم وصلوا إلى إيطاليا تفاديا للشرطة الفرنسية التي كانت تمثل تهديدًا في أي لحظة.

عندما وصل الفريق إلى تونس، كان الترحيب بهم كبيرا، رغم قلة معرفة مسؤولي جبهة التحرير الوطني هناك بتفاصيل كرة القدم. بدأ الفريق تدريباته بسرعة، وسرعان ما جذب الانتباه. الصحافة المحلية والدولية بدأت تتحدث عنهم وعن مشروعهم الثوري في عالم كرة القدم. عُرف هذا الفريق باسم “فريق جبهة التحرير”، وكان يشمل 30 لاعبًا من عدة أندية أوروبية.

خلال السنوات الـ4 التي قضاها مع الفريق، جاب مخلوفي وزملاؤه العديد من البلدان، حاملين رسالة الثورة الجزائرية في الملاعب. كانت هناك مباريات في دول صديقة للجزائر مثل دول أوروبا الشرقية كبلغاريا ورومانيا والاتحاد السوفيتي، وفي آسيا مثل الصين وفيتنام، وكذلك في دول عربية مثل العراق وليبيا والمغرب. كانت المباريات بمثابة رسائل سياسية، ولذا رغم أن الفريق لم يكن معترفًا به رسميًا من قِبَل الفيفا، إلا أن الجماهير كانت تأتي للتعبير عن دعمها.

يحكي “مخلوفي” في حواره مع “لوموند”، بحماس عن إحدى المباريات في بلغراد، حين تجمعت الجماهير بعد سماعها بوصول “الفريق الجزائري الثائر”، ليتمكنوا من الفوز بنتيجة 6-1. ويحكي عن لحظات استثنائية، مثل لقائهم بـ”هو تشي من”، قائد الثورة الفيتنامية، في قصره، وحضورهم إلى جانب رئيس الوزراء الصيني تشو إنلاي عرضًا مسرحيًا. ويذكر كذلك كيف طلب المدربون الصينيون من الفريق الجزائري تقديم نصائح حول استراتيجيات اللعب.

 

الجزائر… قضية عالمية

في 14 أبريل من عام 1958، كان بمقدور جبهة التحرير الجزائرية أن تعلن بفخر “عددا من اللاعبين الجزائريين المحترفين غادروا فرنسا وإمارة موناكو من أجل النضال وتلبية لكفاح الجزائر”، “زيتوني ومخلوفي” تركوا فرصة اللعب لفرنسا في كأس العالم 1958 بعد أن وقع الاختيار عليهم، وكل اللاعبين الجزائريين في فرنسا تقريبا اتخذوا قرارهم بمغادرة فرنسا وتكوين المنتخب الجزائري.

ولأن كرة القدم ليست مجرد لعبة، فقد كان للخبر وقع الذهول على الإعلام الفرنسي.

كتبت “ليكيب” عن الحادثة “الرياضة أداة رائعة للتقريب بين الأفراد، إنهم يتعلمون في الملاعب كيف يتعرفون ويتفاهمون بأفضل صورة، لكن من العبث أن نعتقد بأنهم من الممكن أن يكونوا في مأمن من تأثير التيارات السياسية أو الاقتصادية الكبرى المولدة للنزاعات العالمية الحالية.. جبهة التحرير المسؤولة عن الحدث المفاجئ الذي جرى ظهيرة يوم الإثنين استوحت المقل من فيدل كاسترو، المتمرد الكوبي الذي قام، كما نتذكر، باختطاف بطل العالم للسيارات مانوالفانجيو. لقد تصرفت بنفس الطريقة، لا شيء يمكن فعلا أن يؤثر في الأذهان بقدر الانسحاب المفاجئ لزيتوني ورفاقه عشية مناقشة البرلمان.. ومباراة دولية كبرى في كرة القدم”.

“من غير المجدي أن ننكر الدوي الذي سيحدثه هذا التصرف. العدوى قد تتوسع، في ذهننا بعض الأسماء الكبيرة لرياضة ألعاب القوى مثل (عامر، براقشي وميمون)، وفي الملاكمة مثل (حليمي، وحامية)، بل وفي السباحة مثل “خمون”، باعتباره عنصرا من الدرجة الأولى”.

هكذا نقلت صحيفة “ليكيب” الفرنسية خبر انسحاب اللاعبين الجزائريين من الدوري الفرنسي، وكذلك أيضا قضية فرنسا بعد هذا الموقف الجليل لم تعد كما كانت قبله، فقد تحولت قضية “استقلال الجزائر” من قضية محلية أو عربية، إلى قضية عالمية تتناول صحف العالم أخبارها في صفحاتها الأولى. يقول عباس فرحات أحد الزعماء الجزائريين في جبهة التحرير “هذا الفريق أكسب الثورة الجزائرية ما يساوي عشر سنوات من العمل”.

 

ضد الفيفا

كانت المشكلة بعد ذلك أن الاتحاد الفرنسي تقدم بشكوى إلى الاتحاد الدولي “فيفا”، لعدم الاعتراف بهذا المنتخب كممثل للجزائر ومنعهم من اللعب في أي مناسبة دولية، وهو ما وافق عليه فيفا. لكن ورغم تهديدات الفيفا بمعاقبة أي دولة تستقبل الفريق، إلا أنهم تمكنوا من كسر هذا الحظر ولعب أكثر من 80 مباراة في مختلف الدول. يقول “رشيد مخلوفي”: “لعبنا في العديد من دول أوروبا الشرقية مثل الاتحاد السوفيتي وبلغاريا ورومانيا المجر وتشيكوسلوفاكيا، لعبنا كذلك بآسيا: في الصين وفيتنام، وبالطبع في بعض الدول العربية تونس، ليبيا، الأردن، المغرب وغيرهم. جولاتنا كانت تمتد لعدة أسابيع”، “ولكن ستظل اللحظة الأهم بالنسبة لي في العراق. رُفع حينها العلم الجزائري لأول مرة وعُزف النشيد الوطني”.

الهدف من رحلات منتخب التحرير لم يكن كرة القدم، لكن نشر الفكرة، نحن الجزائر ولنا قضية يجب أن تنظروا إليها ضد المحتل الفرنسي. يقول “مصطفى معزوزي” مهاجم فريق جبهة التحرير “أعجز عن وصف شعوري تجاه تلك الفترة، لقد شعرنا بالفخر للمشاركة في الثورة الجزائرية، وازددت فخرا عندما شعرت الحكومة الفرنسية أن هروبنا بمثابة صفعة على وجههم”، “على مدار 4 سنوات، عشنا حياة من الترحل، خضنا عشرات المباريات وحققنا العديد من الانتصارات وكونا ذكريات رائعة لا ننساها، لم تكن انتصاراتنا معجزة، فنحن منتخب مكون من أفضل لاعبي كرة القدم في الجزائر”.

من بوخاريست إلى هانوي، مرورا ببغداد وبكين صوفيا وطرابلس وبيلجراد، يتجول المنتخب الجزائري عبر البلاد ويعرف مئات الآلاف من الناس بمآسي الجزائر، كأفضل سفير للبلاد. هكذا نشأ المنتخب الجزائري، وحصل على صفته الرسمية بعد الاستقلال الرسمي عام 1962، ومن هنا قد تفسر سبب الارتباط غير الطبيعي للجزائريين بمنتخبهم، على يد هؤلاء الأساطير المخلدين في التاريخ. الآن يغادر “رشيد مخلوفي” دنيانا، ولا يجد من يودعه من رفاق درب الماضي سوى “دحمان دفنون” و”محمد معوش”، آخر من بقي على قيد الحياة من “جبهة التحرير”.

شريف. م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى