تكنولوجيا

“غوغل”.. ربع قرن من التأسيس الصامت لبناء عملاق الذكاء الاصطناعي

منذ تأسيسها قبل أكثر من 25 سنة، لم تكن “غوغل” مجرد محرك بحث، بل كانت تعمل بصمت على بناء قاعدة تقنية معقدة، هدفت من خلالها إلى تحقيق رؤيتها الكبرى في التحكم بالذكاء الاصطناعي، ومع مرور الزمن بدأت ثمار هذه الرؤية تظهر تباعا من خلال أدوات متطورة تجعلها اليوم تتربع على عرش الذكاء الاصطناعي عالميا، حيث تستفيد من أرشيف رقمي ضخم ومعالجات عالية القدرة وأنظمة بيانات فائقة الدقة.

 

بدأت القصة في سنوات التأسيس الأولى، حين كانت الشركة تجمع نسخا متكررة من شبكة الإنترنت، وتطور خوارزميات لفهمها وترتيبها، وكانت تلك البيانات الضخمة تخزن وتُصنف بشكل منتظم، مما مكّنها من جمع أكبر مكتبة رقمية في التاريخ الحديث، ومع تطور التقنيات لم تكتف “غوغل” بالبحث بل وسّعت نشاطها إلى أنظمة تشغيل وهواتف وخرائط ومرئيات، وكل هذه الخدمات لم تكن سوى روافد تصب في مجرى واحد وهو بناء بنية تحتية شاملة لتعليم الآلة.

أدركت “غوغل” منذ البداية أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مجرد برنامج مستقل، بل منظومة مترابطة من أجهزة وبرمجيات وخدمات سحابية، فاستثمرت في تصميم شرائح مخصصة للمعالجة عُرفت بقدرتها الكبيرة على التعامل مع البيانات، كما أنشأت مراكز بيانات عملاقة في مختلف القارات، مما أتاح لها التفوق في مجال تحليل ومعالجة المعلومة.

 

من البيانات إلى الفهم.. رحلة الذكاء نحو التعلّم والإبداع

منذ منتصف العقد الماضي، بدأت غوغل في تطوير نماذج قادرة على توليد المحتوى وفهمه بطريقة أقرب إلى التفكير البشري، فاعتمدت على قاعدة بياناتها الهائلة وعلى خوارزميات تم تطويرها داخليا، كما استعانت بمختبرات علمية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، واستثمرت في شركات صغيرة ومتوسطة تعمل في هذا المجال، ما مكّنها من كسب الخبرات وسرعة التطوير.

خلال السنوات الأخيرة، كشفت الشركة عن أدوات جديدة مثل تلك التي تولّد الصور والفيديوهات بدقة عالية اعتمادا على توصيف نصي بسيط، وهو ما اعتُبر قفزة نوعية في عالم الإبداع الرقمي، ولعل الأداة الأحدث التي طرحتها غوغل لصنّاع المحتوى المرئي خير دليل على ذلك، حيث تتيح لأي شخص تحويل فكرته إلى مقطع مرئي متكامل من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي.

هذا التقدم لم يكن ليحدث لولا أن غوغل قامت بترسيخ مفاهيم التعلم الآلي داخل أجهزتها، فقد طوّرت على مدى سنوات نموذجًا رياضيًا متكاملا ساعد على تحسين أداء الأنظمة، ومع توافر مئات الملايين من مقاطع الفيديو والنصوص والصور، أصبحت خوارزميات غوغل تتعلم باستمرار من أنماط السلوك البشري ومن طبيعة الأسئلة والأجوبة، مما منحها قدرة غير مسبوقة على توليد محتوى يشبه في طبيعته ما يقدمه البشر.

كما طورت الشركة أطرًا تقنية موجهة للمطورين والباحثين، تسهّل عليهم استخدام الذكاء الاصطناعي في مشاريعهم، مما ساعد على توسيع رقعة التطبيقات الذكية حول العالم، وخلق منظومة متكاملة تعمل داخل وخارج غوغل، وتدفع نحو تعزيز الاستخدام الآمن والمستدام لهذه التقنية.

 

منافسة محتدمة وموقع ريادي يُصعب تجاوزه

بينما كانت غوغل تبني بهدوء بنيتها التقنية، بدأت شركات أخرى مثل “مايكروسوفت” و”ميتا” و”آبل” تدخل السباق من بوابات مختلفة، حيث ركزت مايكروسوفت على الشراكات الخارجية، في حين حاولت آبل تطوير تقنياتها من داخل أجهزتها، لكن رغم الجهود المبذولة بقيت المسافة الفاصلة بين غوغل وهذه الشركات كبيرة، بسبب غياب بنية تحتية مماثلة لدى المنافسين.

واجهت بعض الشركات تحديات واضحة في مجال الذكاء الاصطناعي، بسبب نقص مراكز البيانات أو القيود المفروضة على استخدام المعلومات، وهو ما جعلها تلجأ إلى استئجار موارد من غوغل نفسها، كما هو الحال في بعض خدمات التخزين والمعالجة، وهو ما يعكس النفوذ الواسع الذي تمتلكه غوغل في مجال البنية التحتية.

وتجدر الإشارة إلى أن رؤية غوغل كانت دائما واضحة، فهي لم تكن تسعى فقط لبناء أدوات سريعة أو واجهات ذكية، بل كانت تطمح إلى تأسيس بيئة شاملة تتيح للذكاء الاصطناعي أن يكون جزء أصيلًا من الحياة اليومية، سواء في البحث أو التعليم أو الطب أو التصميم أو غيرها من المجالات.

اليوم، تؤكد غوغل من جديد أنها سبقت الجميع ليس فقط بالمنتج النهائي، بل بالتأسيس العميق الذي بدأ منذ عقود، وهو ما يصعّب على المنافسين اللحاق بها في الوقت القريب، فالشركة تمضي بخطى ثابتة نحو بناء منظومة عالمية تجعل الذكاء الاصطناعي جزء من كل جهاز وكل تطبيق، ما يعزز من حضورها التقني ويمنحها زمام المبادرة في سباق المستقبل الرقمي.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى