خلف سُفوح جبال بلدية سلمى بن زيادة بجنوب غرب جيجل تقع ” المشاكي”، هذه العين العجيبة، ليست مجرد ينبوع ماء شروب بارد ومنعش تتدفّق مياهه وفقط، بل إحدى أعاجيب الطبيعة الخلابة.
ورد ذِكر هذا المنبع قبل قرون مضت، حيث تمّ توثيقها من قبل عديد الرحالة على غرار الجغرافي العربي الشهير البكري في القرن الحادي عشر، وقد ورد ذِكر هذا المنبع قبل قرون مضت، حيث تم توثيقها من قِبَل عديد الرحالة على غرار الجغرافي العربي الشهير البكري في القرن الحادي عشر، في كتابه “وصف شمال إفريقيا “أين أشار إلى عين تُعرف باسم “عين الأوقات” أو “عين الساعات” نسبة إلى انتظام تدفّق مياهها خلال أوقات محدّدة من النهار والليل خاصة مع مواقيت الصلوات الخمس.
هذا التّزامن غير المعتاد، جعلها تُعتبر في نظر السكان المحليين معجزة تستحقّ التّقديس وتحوّلت إلى مزار للتبرّك والبحث عن الشّفاء، والمثير في قصة هذه العين أنّها كانت دليل براءة أو إدانة، حيث كان المتّهمون بارتكاب جرم ما يُجلبون إلى أسفل النّبع وإذا لم تتدفق المياه في وقت قريب كانت التهمة تُثبت عليهم.
دهشة وخرافة
كانت العين ولا زالت مصدرًا للدّهشة والفُضول، ولم يكن من السّهل في الأزمنة القديمة تفسير ظاهرة تدفّق المياه بصورة متقطّعة، فلجأ النّاس إلى نسج حكايات تتماشى مع اعتقاداتهم الثّقافية والدينية المشبعة بالخرافات إلى درجة الحديث عن خواص سحرية وأن هناك قوى خارقة تتحكم في مجرى المياه.
يقول “مولود” ابن بلدية سلمى بن زيادة لـ الترا جزائر” نشأ سكان المنطقة القدامى على الإيمان بقدسية المكان، لأنّ الماء يذهب ثم يأتي فيختفي ليعود في شكل شلال قوي جدا وبارد، فصار مقصداً للتبرّك والرجاء أملا في قضاء الأمنيات”.
وأضاف “ليس غريبا أن يقبل عليها الزوار مصحوبين بأبنائهم منهم من يعاني من الإعاقة أو أمراض مستعصية”. لا تزال هذه المعتقدات سارية لدى سكان المنطقة وخصوصا كبار السنّ، الذين يفضلون الاستمرار في نسج أساطيرهم حولها، وإلى وقت قريب كان أبناء القرى يجتمعون عند فتحة المنبع لممارسة طقوسهم مرددين ترانيم” يا بْنِي فُوغَال وسْيَادِي حَنُّوا عْلِينَا”، تتخلّلها تعليق أشياء تميمات في شجرة التّين ورمي حلوى تقليدية في فتحة المنبع وسط ابتهالات وزغاريد ثمّ الاغتسال في المياه.
وحول هذه الطّقوس؛ قال “مولود” إنّها “تتمّ عادة صبيحة أيام السبت، كما استقطبت مثقّفين وباحثين من أبناء المنطقة على سبيل المشاركة في إحياء عادات الأجداد وتقاسم اللحظات وليس لقناعتهم بالخواص العلاجية والاعتقادات القديمة”.
من يفكّ اللّغز؟
مع تطور العلوم والمعرِفة، ظهرت محاولات لتفسير ظاهرة تدفّق المياه في “عين المشاكي” من منظور منطقي يتجاوز التّفسيرات الأسطورية والميتافيزيقية التي حِيكَت حولها.
وحسب دراسة لمهندسين فرنسيين أوردها موقع “بني فوغال دوت كوم” المختصّ في تاريخ القبيلة المنتشرة حول المنبع، أن الأمر يتعلق بمياه جوفية حبيسة مصدرها ذوبان الثلوج في قمم الجبال المحيطة، لها منافذ قليلة أو معدومة لأن الطبقة التي تشكلها محصورة بين منطقتين غير منفذتين: وبالتالي لا يمكن للمياه أن تدور إلاّ في المنطقة المحصورة، ثم تنطلق بشكل مفاجئ نتيجة تغيرات الضغط أو الحرارة.
وتنبعثُ المياه عبر المجرى الضيّق بهدوء ثم تزداد غزارتها شيئاً فشيئاً لمدة 10 دقائق ثم تبدأ العملية العكسية أي التلاشي حتى تتوقّف المياه نهائيا عن السيلان لمدة 40 دقيقة أخرى تقريبا، وتكرّر هذه الظاهرة طوال اليوم وعلى مدار السنة. وقال ابراهيم القادم من العاصمة الذي زار المنطقة قبل أعوام “المثير في المشاكي هي رائحة الصخور ورطوبة الأرجاء والرّذاذ المتطاير من الجدول وخرير مياه الشلال الصغير التي تنساب وفق نظام تدفق دقيق وغريب لا يترك لك مجالا إلاّ للتأمل في إبداع الخالق والطبيعة”.
وكالات