
تصريحات حديثة أطلقها “سام ألتمان” المدير التنفيذي لشركة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، أثارت جدلا واسعا بعدما لمح إلى أن ما يعرف بنظرية ” الإنترنت الميت ” قد تحمل قدرا من الصحة، حيث اعتبر أن كثيرا من الحسابات المتواجدة على المنصات الرقمية تدار في الواقع عبر أنظمة ذكية وليست أشخاصا حقيقيين، هذا التصريح جاء عبر منشور على منصته الشخصية وأشعل نقاشات واسعة بين مستخدمين، اعتبروا أن الرجل الذي يقود واحدة من أكبر شركات الذكاء الاصطناعي يساهم بنفسه في صناعة المشكلة التي يحذر منها.
الإنترنت الميت .. من نظرية هامشية إلى نقاش عالمي
فكرة “الإنترنت الميت” ليست جديدة، إذ ظهرت قبل سنوات في دوائر محدودة عبر منتديات نقاشية لتطرح احتمال أن كثيرا مما نشاهده على الشبكة ليس نابعا من أشخاص بل مولدا بواسطة أنظمة حاسوبية، وكان يُنظر إليها على أنها أقرب إلى الخيال أو المبالغة، غير أن اتساع دور الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى خلال الأعوام الأخيرة منحها زخما جديدا، حيث صار من السهل إنشاء آلاف الحسابات الآلية التي تنشر نصوصا وصورا ومقاطع مصممة بطرق متقنة يصعب على المستخدم العادي التمييز بينها وبين ما يكتبه البشر، الأمر الذي عزز شكوك أن العالم الرقمي قد يطفح بمحتوى مزيف يبتلع تدريجيا المحتوى الأصيل.
تصريحات ألتمان منحت هذه النظرية وزنا إضافيا لأنها صادرة عن شخصية فاعلة في قلب صناعة الذكاء الاصطناعي، وهو ما جعل البعض يراها اعترافا غير مباشر بأن المنصات الكبرى باتت عاجزة عن ضبط الكم الهائل من الحسابات غير الحقيقية، في حين رأى آخرون أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإثارة النقاش وإبراز أهمية أدوات جديدة للتحقق من هوية المستخدمين.
ردود فعل غاضبة وتحميل للمسؤولية
تفاعل المستخدمون مع ما كتبه ألتمان بعاصفة من التعليقات التي حملت في مجملها طابع الغضب، إذ اعتبر كثيرون أن الرجل يصف مشكلة ساهمت شركته ذاتها في تضخيمها عبر إطلاق أنظمة محادثة ذكية قادرة على توليد النصوص بشكل تلقائي، فهذه الأدوات التي أبهرت الملايين أصبحت أيضا أداة في يد من يرغب بإنشاء حسابات وهمية أو نشر محتوى آلي يصعب تعقبه، وقد اتهمه البعض بمحاولة التنصل من المسؤولية بينما ينبغي عليه البحث عن حلول للحد من هذه الظاهرة.
كما أعاد عدد من المستخدمين التذكير بمشروع سابق شارك فيه ألتمان قبل أعوام كان هدفه الأساسي التحقق من هوية الأشخاص على الشبكة عبر وسائل بيومترية مثل مسح العين، حيث رأوا أن حديثه الجديد ما هو إلا استمرار لرغبته في ترويج تلك الفكرة والدفع نحو أنظمة تحقق مشددة، بينما حذر آخرون من أن مثل هذه الحلول قد تهدد الخصوصية وتمنح الشركات سيطرة أكبر على بيانات الأفراد.
الإنترنت الميت .. بين الواقع والمخاوف المستقبلية
بعيدا عن الجدل الدائر تبقى القضية المطروحة أوسع من مجرد تغريدة، فهي تسلط الضوء على سؤال جوهري حول مستقبل فضاء الإنترنت في عصر يتسارع فيه الذكاء الاصطناعي، إذ يخشى خبراء أن يؤدي انتشار المحتوى المولّد آليا إلى إضعاف الثقة بما يُنشر على المنصات الاجتماعية، حيث يصبح من العسير على المستخدم أن يميز بين رأي إنسان وبين نص أنتجته خوارزمية، وهذا قد يؤثر على النقاشات العامة والسياسية والإعلامية ويمنح حملات التضليل مساحة أكبر.
من جانب آخر، يرى بعض المختصين أن المشكلة لا تكمن في وجود تقنيات قادرة على توليد المحتوى بقدر ما تكمن في غياب معايير وضوابط تنظم استخدامها، فإذا وضعت تشريعات واضحة وابتكرت آليات للتمييز بين المحتوى البشري والآلي يمكن عندها تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة المعرفة والإبداع بدلا من جعله أداة لتزييف الواقع، وهذا ما يجعل النقاش الذي أثاره ألتمان مهما لأنه يفتح الباب لمساءلة جادة حول الضوابط المطلوبة في المرحلة المقبلة.
في المحصلة يبقى الخلاف قائما بين من يرى في الذكاء الاصطناعي خطرا يهدد جوهر الإنترنت ومن يعتبره مجرد أداة تحتاج إلى حوكمة رشيدة، لكن المؤكد أن تصريحات شخصية مؤثرة بحجم “ألتمان” لن تمر مرور الكرام، بل ستظل تعكس حقيقة أن العالم يقف عند مفترق طرق، حيث يتوجب الحسم بين فضاء رقمي قائم على التفاعل البشري الأصيل أو فضاء قد يغمره “الإنترنت الميت” بما يحمله من أوهام وحسابات خفية.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله