
هنا و في مدينة وهران تقف مدرسة “ماستر تك” الخاصة بتعليم الذكاء الاصطناعي كمنارة في مجال تعليم التكنولوجيا والروبوتيك للأطفال .منذ تأسيسها، أخذت على عاتقها مهمة إعداد جيل جديد من المبدعين والمبرمجين، جيل لا يكتفي باستهلاك التقنية، بل يسعى لصناعتها وتطويعها لخدمة المجتمع.هذه البيئة المليئة بالحماس والانضباط والخيال العلمي، كانت الحاضنة التي احتضنت مسيرة طفل استثنائي يدعى زكرياء حفيظي، البالغ من العمر 12 عاماً، الذي يدرس حالياً في السنة الثانية من التعليم المتوسط.
انضم زكرياء إلى “ماستر تك” وهو في التاسعة من عمره، في مارس 2022، بعد أن اكتشفت والدته عبر الموقع الإلكتروني للمؤسسة أن هذه المدرسة يمكن أن تكون البوابة التي تفتح أمامه آفاق أحلامه التقنية. لم يكن انضمامه مجرد تسجيل في دورة أو نشاط، بل كان بداية مسار تعلّم ممنهج، سرح طريقه نحو البرمجة وصناعة الروبوتات، وصاغ ملامح شخصيته
العلمية المبكرة.
زكرياء، منذ طفولته الأولى، كان مولعاً بعالم التكنولوجيا. فضوله لم يكن سطحياً أو عابراً؛ كان يقضي ساعات يراقب كيف تُصنع الألعاب الإلكترونية، ويحاول أن يفهم الأكواد البرمجية، حتى قبل أن يتلقى أي تكوين أكاديمي فيها. والده كان يصفه دائماً بأنه “سريع البديهة”، وقرّر أن يمنحه فرصة لتجربة البرمجة مبكراً، فأعطته امه حاسوب شقيقه الأكبر ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة الاستكشاف الحقيقية. لم يكتفِ زكرياء بمحاكاة ما يراه، بل حاول أن يبتكر شيئاً خاصاً به، ولو كان بسيطاً، وكان هذا الدافع الداخلي هو الوقود الذي دفعه للالتحاق بـ “ماستر تك.
من الشغف الفردي إلى التكوين المنهجي… زكرياء حفيظي يروي تجربته
في لقاء خاص مع جريدة البديل جلس زكرياء بعينان تلمعان بالحماس، ليشاركنا تفاصيل رحلته قال: “دائماً كان حلمي أن أكون مبرمجاً. قبل أن ألتحق بالمؤسسة، كنت أحب هذا المجال كثيراً، وكنت فضولياً تجاهه. لكن بعد أن بدأت التكوين هنا، تغير كل شيء. صرت أتعلم بالخطوات، من صناعة الروبوتات الصغيرة والمشاركة في سباقات بها، إلى التعمق في البرمجة، وحتى تطوير مهاراتي في اللغة الإنجليزية.
تجربته في “ماستر تك” لم تكن مجرد تلقّي للدروس، بل كانت تفاعلاً مع بيئة تعليمية متكاملة من اللحظة الأولى، وجد نفسه وسط زملاء يشاركونه الشغف ذاته، وأساتذة يرشدونه ويوجهونه. يضيف: “أكثر ما أعجبني هنا أنني لا أتعلم فقط ، بل اصنع التجربة المباشرة.“
ما يميز قصة زكرياء هو الدعم المزدوج الذي تلقّاه؛ دعم أسري قوي، ودعم مؤسسي من المدرسةو والدته، التي بادرت بالبحث عن مكان يؤطر موهبة ابنها، ووالده الذي شجّعه ووفّر له الإمكانيات، كانا السند الأول. وفي المقابل، قدّمت له “ماستر تك” فضاءً منظماً، ومشاريع عملية، وأساتذة بخبرة عالية، جعلوا منه أكثر انضباطاً وقدرة على تحويل أفكاره إلى نماذج حقيقية.
من المختبر إلى الأولمبياد… قصة “المصعد الذكي”
أحد أبرز محطات مسيرة زكرياء حتى الآن، كانت مشاركته في الأولمبياد الوطنية للروبوتيك التي أقيمت في جوان 2025. هذه المشاركة لم تكن وليدة الصدفة، بل نتيجة أشهر من التحضير المكثف. يروي لنا قائلاً: “تجهزت كثيراً للمسابقة، ووضعت كل جهودي في مشروعي الخاص. الأساتذة في المركز وفروا لي كل ما أحتاجه، ولم أنسَ فضل والدي عليّ في تشجيعي ودعمي.
مشروعه الذي حمل اسم “المصعد الذكي”، كان فكرة مبتكرة تجمع بين البساطة والفعالية. الفكرة الأساسية وُلدت أثناء جلسة تبادل أفكار مع صديقه وزميله في المركز، حيث اقترح زكرياء تصميم مصعد إلكتروني يمكن أن يخدم المستشفيات، بينما أضاف صديقه فكرة التحكم فيه بتقنية البلوتوث. لكن، ولظروف خاصة، توقف زميله عن حضور الدورات، فوجد زكرياء نفسه أمام تحدٍّ مضاعف: إكمال العمل بمفرده.
ستة أشهر من العمل الجاد قضاها بين الورشات والبرمجة والاختبارات، حتى وصل المشروع إلى شكله النهائي: مصعد صغير الحجم، يعمل بتقنية البلوتوث، مصمم لنقل الأدوية والمستلزمات الطبية للأطباء بسرعة في الحالات الطارئة، ما يختصر الوقت ويزيد من فرص إنقاذ المرضى.
ورغم أنه لم يحرز إحدى المراتب الأولى، إلا أن لجنة التحكيم أثنت على المشروع، و يمكن ملاحظة قدرة زكرياءعلى الربط بين التكنولوجيا والحاجة الإنسانية الملحّة. تم تكريمه على جهوده، وحصل على ملاحظات قيّمة ستساعده على تطوير الفكرة مستقبلاً.
أحلام لا تعرف السقف… ونصيحة لجيل كامل
حين سألناه عن طموحاته، أجاب بثقة تتجاوز سنّه: “أطمح لأن أكون مبرمجاً محترفاً، وأصنع مشاريع تفيد العالم من حولي، وليس فقط نفسي”. بالنسبة له، البرمجة ليست مهنة مستقبلية فحسب، بل أداة للتغيير والتأثير الإيجابي. يرى أن كل خط برمجي يمكن أن يكون بذرة لفكرة تغيّر حياة الناس.
زكرياء لا ينظر إلى إخفاقه في الفوز بالمراكز الأولى على أنه نهاية الطريق، بل يعتبره درساً محفزاً. يقول: “المهم أنني تعلمت، وأثبت لنفسي أنني أستطيع إنجاز مشروع كامل بمفردي.
ويختم رسالته إلى كل من يفكر في دخول مجال البرمجة أو الذكاء الاصطناعي بنصيحة صادقة: “لا تتوقف. واصل بكل جهدك، وجرّب ما تستطيع فعله حتى تصل إلى هدفك. النجاح يحتاج صبراً وإصرارا.
زكرياء حفيظي ليس مجرد طفل يتعلم البرمجة؛ هو مثال حي على أن الموهبة، حين تجد بيئة حاضنة، يمكن أن تتفتح باكراً وتثمر أفكاراً خلاقة. قصته مع “ماستر تك” تؤكد أن التعليم الحديث ليس تلقيناً للمناهج، بل صناعة لروح الابتكار منذ الصغر. وإذا كان هذا الفتى قد بدأ رحلته وهو في التاسعة، فمن يدري أي إنجازات قد يسطرها حين يبلغ العشرين؟
في النهاية، يبدو أن مستقبل التكنولوجيا في الجزائر سيكون مشرقاً، طالما هناك مؤسسات مثل “ماستر تك” تفتح أبوابها، وأطفال مثل زكرياء يملكون الشغف والشجاعة ليطرقوا تلك الأبواب، ويحولوا أحلامهم إلى واقع ملموس.