في عالمنا الحديث، لم تعد الرقمنة مجرد خيار بل أصبحت جزءً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تسللت إلى كل زاوية من زوايا الحياة، وحتى الطفولة لم تكن بمنأى عن هذا التحول. الأطفال اليوم، منذ سنواتهم الأولى، يعيشون في عالم مزدحم بالأجهزة الذكية والتطبيقات التفاعلية التي فتحت لهم أبوابًا لا محدودة من الفرص، لكنها في الوقت ذاته وضعت أمامهم تحديات جديدة لم تكن معروفة من قبل.
تلك الأجهزة الصغيرة التي تحمل بين يديهم توفر لهم عالمًا مليئًا بالتجارب المثيرة، حيث بات بإمكانهم التعلم بطرق لم تكن متاحة للأجيال السابقة. تطبيقات تعليمية تجعل من الحساب متعة، ومن تعلم اللغات لعبة مسلية. مكتبات إلكترونية تفتح أمامهم أبواب المعرفة، ومصادر رقمية تتيح لهم استكشاف الكون وهم في غرفهم الصغيرة. الرقمنة أضافت بعدًا جديدًا للطفولة، وجعلت التعليم تجربة ممتعة وشخصية.
لكن كما لكل شيء وجهه الإيجابي، فإن لهذا العالم الرقمي المشرق ظلاله القاتمة. الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية قد يسلب الأطفال طفولتهم الحقيقية، حيث يصبح العالم الافتراضي ملاذهم الأول والأخير. ساعات طويلة أمام الشاشات قد تعزلهم عن أقرانهم، وتقلل من تفاعلهم مع البيئة المحيطة. الصحة الجسدية أيضًا قد تتأثر، فضعف النظر، السمنة، واضطرابات النوم أصبحت مشكلات شائعة بين الأطفال المرتبطين بشدة بأجهزتهم.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالرقمنة تفتح أيضًا أبوابًا على مخاطر نفسية واجتماعية جديدة. في عالم الإنترنت الواسع، يمكن للأطفال أن يتعرضوا للتنمر الإلكتروني أو أن يصلوا إلى محتوى غير مناسب لأعمارهم. هذا الواقع الجديد يضع مسؤولية كبيرة على عاتق الأهل الذين أصبحوا بحاجة إلى توجيه أطفالهم في هذا العالم الرقمي المليء بالتحديات.
دور الأهل هنا ليس مجرد مراقبة الاستخدام، بل يتجاوز ذلك إلى خلق توازن صحي. تشجيع الأطفال على ممارسة الرياضة، اللعب مع الأصدقاء، والانخراط في أنشطة تقليدية يمكن أن يعيد لهم جزء من طفولتهم الحقيقية. في الوقت ذاته، يجب أن تكون الرقمنة أداة للتعلم والإبداع، وليس مجرد وسيلة للترفيه.
المؤسسات التعليمية أيضا لها دور كبير في هذا المشهد بدمج التكنولوجيا في المناهج الدراسية بشكل مدروس، يمكنها أن تفتح أمام الأطفال آفاقًا جديدة للتعلم، مع الحرص على تقديم التوعية اللازمة لاستخدام آمن ومسؤول للإنترنت.
رقمنة الطفولة تحمل في طياتها إمكانات هائلة لتطوير الأجيال القادمة، لكنها تحتاج إلى توجيه حكيم لضمان أن تكون أداة بناء لا هدم. بتحقيق التوازن بين العالم الرقمي والواقعي، يمكننا أن نمنح أطفالنا طفولة غنية بالتجارب، مع إعدادهم لمستقبل يعتمد على التكنولوجيا دون أن يفقدوا إنسانيتهم وبراءتهم.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله