
رحل “حسين والي”، وبه رحلت صفحة مضيئة من ذاكرة الجزائر التي لا تُسطّر إلا بمداد العناء والعشق الوطني العميق (صفحته على منصة الفيسبوك خير دليل).
رحل الرجل الذي لم يكن مجرد باحث أو مؤرخ يوثّق زمن الثورة، بل كان ضميراً نابضاً بتاريخها، شاهداً على لحظاتها المفصلية، ومُحاوراً أميناً لأوراقها الصامتة في أرشيف المستدمر، يوقظها من سباتها لتتكلم بلغة الجزائر الأبدية، لغة الحرية والوفاء.
كان حسين والي من أولئك القلائل الذين آمنوا بأن التاريخ ليس مهنة تُمارس، بل رسالة تُحمل. كان يمضي بين الوثائقـ كما يمضي المجاهد في الميدان، لا يكلّ من التنقيب عن الخيط المفقود بين الرواية واليقين. جمع حوله شهادات المجاهدين وخرائط المعارك وسجلات المعتقلين وأسماء المدن والقرى والوديان، ليعيد رسم الجغرافيا المعنوية لثورة التحرير في ولايتَي سعيدة ومعسكر.
لم يكتب ليمجّد الأسماء، بل ليمنحها مكانها الصحيح في سفر الحقيقة.كان حين يكتب، يكتب بتوجّس العارف أن الكلمة حين تخون، تخون وطناً بأكمله، لذلك ظلّ دقيقاً كالمؤرخ، شجاعاً كمناضل، شفافاً كمن يُناجي ذاكرة الشهداء. من يعرفه عن قرب يدرك أن صوته كان خافتاً حين يحكي، لكنه نافذ حين يكتب، وأن مفرداته لم تكن تبحث عن الزينة بقدر ما كانت تبحث عن الدلالة، عن تلك اللحظة التي تلتقي فيها الوثيقة بالوجدان، والزمن بالوفاء.
أتذكر ذلك اليوم حين زارني في بيتي بغريس مع ثلة من الأصدقاء، وكان حديثنا طويلاً عن معركة بعير ببلدية البنيان، كنت أروي بعض الشهادات التي جمعتها من أفواه الشهود، وكان هو بصمته البهي يدوّن ويقارن، حتى أخرج من بين أوراقه وثيقة واحدة من أرشيف فرنسا، صحّحت الكثير من التقديرات، وبدّدت الغموض الذي طالما اكتنف تلك الواقعة. عندها أدركت كم هو عميق هذا الرجل، وكيف استطاع أن يجعل من الوثيقة عصب الحقيقة لا جمودها.
لقد كان حسين والي ينتمي إلى جيل من الباحثين العصاميين الذين آمنوا بأن الأمانة العلمية شرف لا يضاهيه وسام. كان يرفض التمجيد الأجوف، ويقف عند كل رواية يسائلها، لا هروباً من يقينه، بل وفاءً لمسؤوليته. أراد أن يكون التاريخ ساحة معرفة لا ساحة مجاملة، وأن تكون الذاكرة الوطنية بناءً لا حنيناً.ها نحن بعد رحيله نقف أمام إرثه الكبير: كتبه ومقالاته وأوراقه غير المنشورة، وتلك الوجوه التي أنارها بحديثه وشهاداته. ترك وراءه تركة من النقاء البحثي تجعلنا نطمئن أن الذاكرة الجزائرية لا تُيتم إذا ما حمل أمانتها من عرفوه. إلى أصدقائه وتلاميذه ورفاق دربه، ترك وصيته: أن تظل الحقيقة فوق كل انتماء، وأن يكون الوفاء سطر الافتتاح في كل بحث.نم قرير النفس يا حسين، فقد أديت ما استطعت من واجب الكلمة والموقف.نم وأنت تعلم أن ما كتبته لن يُمحى، وأنّ ذاكرة هذا الوطن مدينة لك بالصدق والضوء.