تكنولوجيا

ديتوكس الإنترنت.. استعادة الحيوية لجسد منهك رقميا

قد نعتقد أن الإنترنت يرهق أعيننا أو يسرق وقتنا، لكن الحقيقة الأعمق هي أنه يعيد تشكيل كيمياء أجسادنا من الداخل. الاستخدام المتواصل للهواتف الذكية، تصفح الأخبار بلا توقف، وتلقي التنبيهات بشكل لحظي، لا يؤثر فقط على طاقتنا أو انتباهنا، بل على توازننا العصبي والهرموني. من هنا تبرز ضرورة ديتوكس الإنترنت ليس كراحة عقلية فقط، بل كخطوة لاستعادة كيمياء الجسد التي اختُطفت في زحمة الإشعارات والتمريرات اللانهائية.

في كل مرة نفتح فيها إشعارا أو نرى عدد الإعجابات على منشور، يُفرز في أدمغتنا القليل من الدوبامين، ذلك الناقل العصبي المرتبط بالتحفيز والمكافأة. بمرور الوقت،يتحول هذا التحفيز إلى نمط إدماني يشبه إدمان السكر أو النيكوتين. لا نشعر بذلك لأنه يحدث على جرعات صغيرة، لكنها متكررة جدا، تجعلنا نُدمن دون أن ندرك. وهنا يأتي دور ديتوكس الإنترنت كحاجة بيولوجية، لا مجرد رفاهية نفسية. فعندما نقطع هذا التدفق غير الطبيعي من التحفيز، نمنح الجهاز العصبي فرصة لإعادة التوازن واستعادة حساسيته الطبيعية للمكافآت الحقيقية في الحياة.

ديتوكس الإنترنت لا يريح الدماغ فقط، بل يهدئ نظامنا العصبي ، الذي يبقى في حالة تأهب مزمن بسبب التنقل السريع بين التطبيقات والمعلومات. هذا التأهب المستمر يرفع معدل الكورتيزول في الجسم، هرمون التوتر الذي حين يطول وجوده يصبح مضرًا، يسبب الأرق، التهيج، مشاكل الهضم، وحتى يضعف المناعة. تخيّل إذًا أن بضع ساعات بعيدا عن الإنترنت يمكنها أن تخفض منسوب التوتر الفسيولوجي، وتمنح أعضاءك الداخلية استراحة لا تقل أهمية عن استراحة العقل.

في المقابل، الحرمان المؤقت من التحفيز الخارجي يفتح الباب لتحفيز داخلي طبيعي، حين يتوقف سيل المعلومات، يبدأ المخ في تنشيط شبكات الاستبطان، تلك المناطق المسؤولة عن التفكير الإبداعي، والذكريات، والتخطيط للمستقبل وهذا ما يفسر لماذا تأتي أفضل الأفكار حين نكون في الحمّام، أو أثناء المشي، أو خلال الصمت الرقمي الكامل ببساطة حين يتوقف الضجيج، يبدأ العقل في الكلام. ديتوكس الإنترنت إذًا هو فرصة بيولوجية للإبداع، لا مجرد تحكم في الوقت.

ليس من الغريب إذا أن الكثير من حالات الإرهاق العقلي والاكتئاب الخفيف، اليوم تُربط بما يُعرف بـالضجيج العصبي الرقمي، وهو مصطلح جديد يشير إلى التوتر الناتج عن التحفيز الرقمي المستمر. هذا الضجيج يمنع المخ من الدخول في حالات الاسترخاء العميق أو التركيز الكامل، مما يُضعف الإنتاجية ويزيد الشعور بالتشتت حتى في أبسط المهام اليومية. ديتوكس الإنترنت هنا يشبه إعادة ضبط للنظام، كبداية جديدة تُعطى للمخ كي يستعيد وظائفه الأساسية بعيدًا عن الفوضى الرقمية.

والأمر لا يتوقف عند الدماغ فقط، بل يمتد إلى الجسد ككل، تزايد الجلوس وقلة الحركة المرتبطة باستخدام الإنترنت تؤدي إلى مشاكل في الدورة الدموية، وضعف العضلات، واضطراب في إيقاع النوم.كل هذا يُعيد تشكيلنا ككائنات أقل حيوية. من هذا المنطلق، فإن ديتوكس الإنترنت ليس فقط عن الامتناع عن التصفح، بل هو أيضًا عن استعادة الإيقاع البيولوجي الطبيعي ,النوم المنتظم، الحركة، التعرض لأشعة الشمس، وحتى التفاعل الإنساني الحقيقي.

الأمر الذي يغفله كثيرون هو أن الصحة النفسية الرقمية لا تنفصل عن الصحة الجسدية، فحين نمنح أعيننا استراحة من الإضاءة الزرقاء، نخفف العبء على أعصابنا البصرية. وحين نتوقف عن المقارنات الاجتماعية المستمرة عبر المنصات، يرتاح القلب من القلق، والمعدة من التوتر، والعضلات من التشنج. هنا يتحول ديتوكس الإنترنت من مجرد عزلة عن التقنية إلى تجربة شاملة لإعادة الاتصال بالجسد.

أخيرًا، إن ديتوكس الإنترنت لا يجب أن يكون فعلًا متطرفًا أو مؤقتًا. بل يمكن أن يصبح طقسًا يوميًا بسيطًا: ساعة بلا هواتف قبل النوم، صباح يبدأ دون شاشات، عطلة نهاية أسبوع بلا وسائل تواصل. هذه الطقوس الصغيرة قادرة على أن تحدث تحوّلًا كبيرًا في طاقة الجسد، وضوح العقل وهدوء النفس.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى