
الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات .. لم يعد النظر إلى أقسام الشركات بمنطق الفصل الصارم بين مهام البشر ومهام التقنية مقاربة صالحة في زمن الذكاء الاصطناعي، فبينما اعتادت المؤسسات على تركيز الموارد البشرية على الموظفين وتركيز تكنولوجيا المعلومات على الأنظمة والأجهزة، أخذت بعض الشركات اليوم منحى مختلفا بدمج القسمين تحت قيادة واحدة، وهو ما يعكس وعيا متزايدا بأن التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة داعمة بل أصبحت جزء أساسيا من تدفق العمل وتنظيم القوى العاملة.
هذا التوجه يرتبط بتحول أعمق في رؤية الإدارة، إذ لم يعد الهدف وضع خطط منفصلة للقوى البشرية والأنظمة التقنية، بل تصميم آلية موحدة ينجز بها العمل، حيث يتم تحديد ما يمكن أن تقوم به الأدوات الذكية وما يجب أن يبقى في دائرة المهارات البشرية، وهو ما يؤدي إلى رفع مستوى الانسجام بين الفريقين وتجاوز الخلافات التقليدية حول الأولويات.
تحسين الكفاءة وتعجيل وتيرة التطوير
عندما يدار قسم الموارد البشرية وقسم تكنولوجيا المعلومات معا، يصبح اتخاذ القرار أسرع وأكثر فعالية، ففي السابق كان من الممكن أن تنشأ فجوات زمنية بسبب طلبات الموارد البشرية التي تحتاج إلى تكييف أنظمة معينة أو برمجيات جديدة، بينما يضع قسم التقنية حدودا لما هو ممكن، أما اليوم فإن وجود قيادة مشتركة يذيب هذه الفوارق ويتيح صياغة حلول تجمع بين متطلبات الأفراد وإمكانات الأدوات الذكية.
وقد برزت نتائج ملموسة لهذا النهج في مؤسسات تعتمد على آلاف الموظفين، مثل شركات الاتصالات التي طورت أدوات داخلية لإعلانات الوظائف سمحت للعاملين بالانتقال بين المناصب بسهولة أكبر، وهو ما رفع مستوى التفاعل وقلل من معدلات التسرب، كما أن الدمج جعل تطوير التطبيقات الداخلية أسرع، وفتح المجال أمام تكييف العمليات تبعا للظروف دون الحاجة إلى نزاع بين قسمين مختلفين.
إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا للإنسان يتطلب أن يتعلم الموظفون كيف يستخدمونه لإعادة تصميم أعمالهم، وهو ما دفع إدارات عديدة إلى تدريب فرقها ليس على حفظ الأدوات فقط، بل على إعادة ابتكار آليات العمل وفق منظور جديد، وبذلك تحولت الدورات التدريبية إلى مساحة لتقاطع الخبرة التقنية مع الوعي المؤسسي.
الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات .. بين الإيجابيات والمخاوف
رغم المكاسب الكبيرة التي يحققها الدمج، إلا أن هناك أصواتا تحذر من احتمال إضعاف التخصص وفقدان العمق المطلوب في كلا المجالين، فالمهام المتعلقة بالموارد البشرية تحتاج إلى فهم عميق للعوامل التنظيمية والسياقية، بينما تتطلب مشكلات تكنولوجيا المعلومات مهارات تقنية دقيقة، وبالتالي فإن الجمع بينهما قد يخلق خطرا من تداخل الأدوار على حساب الجودة، خاصة في القضايا المعقدة التي لا تحتمل التبسيط.
كما أن الاختلاف في أسلوب التفكير بين الفريقين لا يزال يمثل عائقا، فموظفو الموارد البشرية يتميزون غالبا بالقدرة على التواصل والاستماع، بينما يميل العاملون في التقنية إلى الانشغال بالحلول الصامتة، وقد يحتاج الأمر إلى وسطاء أو قادة فرق متعددة التخصصات لتقريب وجهات النظر، وهذا ما يجعل نجاح التجربة مرهونا بمدى قدرة الإدارة على خلق ثقافة مؤسسية مشتركة يتحدث فيها الجميع لغة واحدة.
أما على المستوى البعيد، فإن الدمج يفتح نقاشا أوسع حول مستقبل العمل ذاته، فإذا كانت الشركات تتوقع أتمتة معظم عملياتها بحلول السنوات القادمة، فإن ذلك يعني أن دور الإنسان سيتحول أكثر نحو حل المشكلات المعقدة والتفكير الاستراتيجي، في حين يتكفل الذكاء الاصطناعي بالمهام التكرارية، وهو ما يستدعي أن تعيد المؤسسات التفكير في هوية أقسامها وفي نوعية المهارات التي تستثمر فيها.
في المحصلة، يعكس الدمج بين الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات محاولة جريئة لإيجاد نموذج إداري أكثر انسجاما مع روح العصر، فهو يوفر سرعة في اتخاذ القرار، ويخلق بيئة عمل متكاملة بين الإنسان والتقنية، لكنه في الوقت نفسه يطرح أسئلة عميقة حول التخصص والهوية المهنية، ويبقى نجاحه مرهونا بقدرة الشركات على الموازنة بين الكفاءة التقنية والبعد الإنساني في إدارة العمل.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله