تكنولوجيا

دعوى حقوق النشر ترسم مستقبل الذكاء الاصطناعي

يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي في الوقت الراهن واحدة من أبرز القضايا، التي قد تعيد تشكيل ملامحه لسنوات مقبلة، حيث ارتفع الجدل حول استخدام الأعمال الإبداعية المحمية حقوق النشر في تدريب النماذج الذكية، ليصل إلى قاعة المحكمة عبر دعوى جماعية رفعتها مجموعة من المؤلفين والناشرين ضد شركة تعمل في هذا المجال، ويتهم المدعون الشركة باستغلال ملايين الكتب المقرصنة التي جُمعت من مكتبات رقمية غير قانونية، معتبرين أن ما جرى يشكل خرقا مباشرا لحقوق الملكية الفكرية وتهديدا لقيمة الإبداع الأدبي والفكري.


 

القضية لم تكن مجرد شكوى عابرة، بل تحولت إلى معركة قانونية استقطبت اهتماما واسعا من العاملين في صناعة النشر والتقنية معا، فقد جاء الاتهام بأن الشركة اعتمدت بشكل كبير على مصادر غير شرعية من أجل تغذية أنظمتها الذكية بالمعارف، وهو ما اعتبره المؤلفون دليلا على تجاهل متعمد لحقوقهم، وذهب بعضهم إلى القول إن هذه الممارسات تمثل شكلا من أشكال السطو على أعمالهم التي استغرقت سنوات من الجهد والوقت والإبداع، في وقت تحاول فيه شركات الذكاء الاصطناعي الظهور بمظهر المطور المسؤول والمبتكر.

 

حقوق النشر .. تسوية تاريخية تعيد الاعتبار للمبدعين

بعد أشهر طويلة من النقاش والجدل القانوني، قدم المدعون خطة لتسوية وُصفت بالتاريخية، حيث بلغت قيمتها نحو مليار ونصف المليار دولار، وتقوم على تمكين المؤلفين والناشرين من المطالبة بحقوقهم بطريقة مبسطة، مع اقتراح يقضي بتوزيع العائدات مناصفة بين الأطراف، وهو ما اعتبره كثيرون خطوة في الاتجاه الصحيح لتصحيح مسار العلاقة بين شركات التقنية وأصحاب الحقوق، خصوصا أن هذا الطرح يتماشى مع المعايير المعمول بها في صناعة النشر التقليدية.

التسوية لم تقتصر على التعويض المالي فحسب، بل حملت أيضا إشارة واضحة إلى ضرورة وضع آليات أكثر شفافية في توثيق مصادر البيانات التي تعتمد عليها أنظمة الذكاء الاصطناعي، بحيث لا يُسمح بعد اليوم بالاعتماد على محتوى مسروق أو مقرصن، وهذا ما أكد عليه أحد القضاة حين أشار إلى أن التدريب قد يُعتبر في بعض الحالات استخداما عادلا للمواد، لكن الخط الأحمر الواضح هو أن القرصنة لا مكان لها في هذا المجال، وهو ما يشكل رسالة قوية لجميع الشركات التي تفكر في تجاهل القوانين.

المؤلفان اللذان قادا هذه الدعوى شددا على أن جوهر المسألة بسيط ومباشر، فالسرقة تبقى خطأ أيا كان الغرض منها، والشركات مهما بلغت قوتها أو حجمها ليست فوق القانون، بل عليها أن تحترم الملكية الفكرية كما يحترمها الأفراد والمؤسسات الأخرى، ومن هنا برزت أهمية هذه التسوية التي قد تكون بمثابة إعلان مبادئ جديد يضع أسسا أكثر عدالة في التعامل مع حقوق المبدعين.

 

انعكاسات عميقة على مستقبل الصناعة

القضية الراهنة لا يمكن النظر إليها على أنها نزاع مالي أو إداري فحسب، فهي تحمل في طياتها إمكانية أن تتحول إلى سابقة قانونية تعيد صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي بالكامل، إذ من شأنها أن تفرض على الشركات التزاما أكبر بالحصول على التراخيص اللازمة وتجنب أي بيانات غير قانونية، ما يعني تغييرا جذريا في طريقة بناء النماذج وتدريبها، وربما يفتح الباب أمام عشرات القضايا المماثلة التي ما زالت عالقة في المحاكم.

هذه التطورات تضع الصناعة في مواجهة اختبار حقيقي، فإما أن تلتزم الشركات بالقوانين وتثبت قدرتها على العمل بشكل مسؤول، أو تجد نفسها غارقة في نزاعات لا تنتهي، مع ما يحمله ذلك من أعباء مالية وقانونية ضخمة، وفي الحالتين فإن التأثير على السوق سيكون حتميا، فالمبدعون الذين كانوا يشعرون في السابق أن أعمالهم تُنهب بلا مقابل، باتوا اليوم أكثر ثقة في أن القانون يمكن أن يحميهم، بينما الشركات تدرك أن الطريق إلى الابتكار لا يمكن أن يُبنى على تجاوز الحقوق.

المحكمة ستنظر خلال الأيام المقبلة في الخطة المقترحة للتسوية، وإذا ما تم إقرارها فإنها ستصبح أول اتفاق من نوعه في هذا المجال، الأمر الذي سيُعيد رسم العلاقة بين المبدعين وشركات الذكاء الاصطناعي على أسس جديدة، ويضع قواعد واضحة لاستخدام المحتوى المحمي، ومع أن النتيجة النهائية لم تُحسم بعد فإن مجرد طرح هذه التسوية يعد خطوة فارقة في رحلة طويلة نحو صناعة أكثر إنصافا ومسؤولية، وهو ما يجعل هذه القضية حدثا قد يغير ملامح المستقبل إلى الأبد.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى