
لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد منصات للترفيه وتبادل الأخبار، بل غدت محاكم رقمية يحكم فيها الناس بعضهم على بعض دون تروٍ، تُرفع فيها القضايا وتُصدر الأحكام بلا دفاع أو استئناف. إنها مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والتقنية، حيث بات من السهل أن يتحول أي مشهد، تصريح، أو صورة إلى قضية رأي عام في لحظات، ومعه تنهال الاتهامات، وتتوالى الأحكام، وتُفتح أبواب التشهير على مصراعيها.
منصة فوق القانون: هل تحكمنا الهواتف أم نحكمها؟
اللافت أن هذه “المحاكم الشعبية الرقمية” لا تخضع لأي نوع من المعايير القانونية أو الأخلاقية، بل تدار غالبًا بمشاعر الغضب، والرغبة في الانتقام، أو حتى الملل والرغبة في المتعة. فبكبسة زر، يمكن لأي شخص أن يشارك تسجيلاً، أو يعلّق تعليقًا قد يدمّر حياة آخر، دون أن يتحمّل أي مسؤولية فعلية. يحدث ذلك بعيدًا عن أي قضاء أو قنوات رسمية، وفي غياب كامل للحق في الخصوصية أو الدفاع عن النفس.
البث المباشر: عرض مباشر للانهيار
واحدة من الظواهر التي برزت في هذا السياق، هي “البثوث المباشرة”، التي تحوّلت في كثير من الأحيان إلى ساحات فضائحية مكشوفة، تُستعمل فيها الكاميرا كسلاح، لا لإظهار الحقيقة، بل لإثارة الجدل، وجذب الانتباه، حتى ولو كان ذلك على حساب أشخاص آخرين. يتم استدراج الضحايا، أو استغلال لحظات ضعفهم، ليتم فضحهم على الملأ، وسط آلاف المشاهدين والمتفاعلين.
وهكذا، لم تعد المسألة تتعلق بحرية التعبير أو كشف الفساد كما يُروّج لها أحيانًا، بل تحوّلت إلى استعراضات حية للعقاب، تغيب فيها الرحمة، ويصير الإنسان موضوعًا للاستهلاك الرقمي، تتقاذفه التعليقات كما تتقاذف العاصفة الأوراق.
ضغطة تدينك.. وأخرى تنهيك
ما يثير القلق أن حكم الجمهور في هذه الفضاءات لا يحتاج إلى دلائل أو سياق. يكفي أن يُقطع جزء من فيديو، أو يُقتبس تصريح منسوب، حتى يبدأ سيل التعليقات الغاضبة، ويتحول الشخص المعني إلى “مجرم افتراضي” قبل أن تتاح له فرصة الشرح أو التوضيح. وفي أغلب الحالات، حتى إن صدر توضيح أو اعتذار، فإنه لا يُغفر، بل يُستقبل بسخرية، ويُفسَّر على أنه تبرير لا يُقبل.
بهذه الطريقة، أصبح الكثيرون يعيشون تحت تهديد مستمر بأن تُستخدم هواتفهم ضدهم، وأن يتحوّل خطأ عابر أو لحظة ضعف إلى عنوان دائم يُلاحقهم لسنوات.
متى أصبح التشهير حقا عاما؟
التشهير عبر الإنترنت أصبح ممارسة عادية لدى البعض، بحجة “الحق في المعرفة” أو “نقل الواقع كما هو”، لكن في كثير من الحالات يتحوّل هذا النقل إلى اجتياح لخصوصية الآخرين، وتضخيم لحوادث فردية، وإلباسها طابعًا عامًّا. فيغيب الحياء، وتُنتهك الحرمات، وكل ذلك باسم “الشفافية”.
والأخطر من ذلك، أن هذه الممارسات تجد من يبررها، بل ويشجعها، بدعوى أن الشخص الذي ظهر في الفيديو “يستحق ما حدث له”، وكأن الجميع صار قاضيًا وجلادًا في الوقت نفسه.
مؤثرون من ورق وعدالة مصنوعة من الترند
ساهم بعض من يسمّون أنفسهم “صنّاع محتوى” في تسريع هذه الظاهرة، حين صاروا يتصيدون أخطاء الآخرين، أو ينشرون مواقف مثيرة للجدل، من أجل رفع نسب المشاهدة، وزيادة عدد المتابعين. البعض لا يتردد في اقتحام الحياة الخاصة للناس، أو نشر تسجيلات غير مصرح بها، بدعوى “فضح الحقيقة”، لكن الواقع أن الهدف في كثير من الأحيان ليس إلا كسب المال أو الشهرة.
بذلك، تتحول القضية إلى تجارة بالعواطف والفضائح، يتربح منها البعض، بينما يدفع الآخرون ثمنًا باهظًا من سمعتهم وحياتهم النفسية والاجتماعية.
المجتمع في مرمى التصعيد
لا تقتصر أضرار هذه الظاهرة على الأفراد فقط، بل تمتد إلى المجتمع ككل. فحين تتكرّر مشاهد التشهير والفضح، يفقد الناس الثقة في بعضهم البعض، وتتحول العلاقات إلى دوائر من الشك والتوتر. يصبح الهاتف أداة تهديد أكثر من كونه وسيلة تواصل، ويتراجع الإحساس بالأمان الاجتماعي.
كما أن الاستهانة بكرامة الآخرين في الفضاء الرقمي قد تُؤدي إلى تطبيع القسوة، وتضخيم مشاعر العداء، وتغذية الانقسام داخل المجتمع، ما يعمّق من الشرخ الأخلاقي والقيمي.
الطريق إلى التنظيم: هل من مخرج؟
في مواجهة هذا الانفلات، بدأت بعض الدول في سنّ قوانين تُعاقب على التشهير الرقمي، والتصوير دون إذن، والتحريض على الكراهية، لكنها تبقى خطوات جزئية لا تكفي وحدها لوقف النزيف. المطلوب هو وعي جماعي، يرفض تحويل وسائل التواصل إلى محاكم غير مسؤولة، ويعيد الاعتبار إلى أخلاقيات التواصل وحدود النشر.
فلا يمكن بناء مجتمع صحي في ظل ترويج ثقافة الفضائح، واعتبار القسوة وجهة نظر، والتشهير وسيلة للتسلية.
الرحمة الرقمية: هل يمكن أن نكون أكثر إنسانية؟
ربما حان الوقت لإعادة النظر في الطريقة التي نتفاعل بها عبر الإنترنت، لنعيد إدخال قيم مثل الستر، والرحمة، والتريث في إصدار الأحكام. فالحياة الرقمية ليست منفصلة عن حياتنا الحقيقية، والإنسان الذي نشهر به عبر الشاشة له عائلة، وماضٍ، ومستقبل، قد يتحطم بكلمة واحدة.
إن بناء فضاء رقمي آمن يتطلب أن نكون أكثر مسؤولية في استخدام الكاميرا، وأكثر رُقيًّا في التفاعل مع الآخرين، وأن نتذكر دومًا أن الإنسان لا يُختصر في لقطة، ولا يُختزل في خطأ.