تكنولوجيا

حقوق الطبع والنشر في خضم عصر الذكاء الاصطناعي

في زمن لم تعد فيه فكرة حماية الأعمال الإبداعية تُفرّق بين الأصل والنسخة، تغيّر المشهد القانوني والثقافي جذريًا بفعل صعود تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تحوّل، دون إنذار مسبق، مواد مبدعة مكتوبة أو مرئية أو صوتية إلى بنى رقمية تستخدم حصريًا في التدريب وأحيانًا في الإنتاج.

 

إعادة التوازن بين المبدع والآلة

في العقود الماضية، حمى القانون الإبداع الإنساني وحصّن الملكية الفكرية بهدف التكريم والمكافأة والعائد المالي للمبدعين، لكن الذكاء الاصطناعي أحدث انقلابًا مفاجئًا في هذه القوانين، إذ بات يتغذى على أعمال محمية دون إذن أو مقابل، مطوّرًا إنتاجًا رقميًا جديدًا لا ينتمي إلى الإنسان ولا يُصنف ضمن الأعمال الأصلية تمامًا، مما أدى إلى تساؤلات جسورة أصبحت قيد النقاش بين المؤسسات والمبدعين والمستخدمين.

لقد تحوّل النزاع القانوني من مجرد تصادم بين شركات التكنولوجيا وأصحاب الحقوق إلى صراع داخلي بين الإبداع البشري الآتي من الماضي وتقنيات توليد المحتوى المتطورة، فالتكنولوجيا أصبحت تنتج محتوىً شبيهًا بأسلوبنا أو فكرتنا وفرضت نفسها كطرف ناشط في الساحة الإبداعية، ما يطرح تحديًا حقيقيًا بشأن من يستحق الاعتراف والملكية والإيراد في هذا المشهد الجديد.

 

الفراغ القانوني بين الاستخدام العادل والإبداع الصناعي

تعتمد الشركات الكبرى الناشطة في الذكاء الاصطناعي على مبدأ «الاستخدام العادل» لإخضاع المحتوى الأدبي والفني لعمليات التدريب دون مقابل، مدعية أن الاستخدام التحويلي لا يغني عن الإعلان أو إعادة إنتاج المحتوى الأصلي، لكن القضاء الأمريكي لم يحسم هذا الجدل بعد، وفي إحدى القضايا الراهنة رفض القاضي إسقاط دعوى قائمة ضد إحدى هذه الشركات، مما يمهد لحكم قد يؤسس سابقة قانونية كبرى.

فيما تظهر إشكالية جديدة تتعلق بالحماية لأسلوب المبدع الشخصي، فالتقليد الصامت للطابع الفني أو الأدبي لم يعد مجرد اقتباس، بل نسخ لهوية المرء الإبداعية دون وسيلة قانونية رادعة، مما دفع إليها بعض الهيئات لترشيح قوانين خاصة لحماية الأسلوب والهوية الإبداعية حتى لو لم يكن هناك نسخ حرفي، في خطوة تعكس مخاوف واضحة من فقدان الإبداع الفريد لصالح أنماط رقمية مولدة.

 

اتجاهات تشريعية جديدة وسط تناقضات قانونية

استجابة للضغوطات المتزايدة، طرحت تشريعات في أنحاء مختلفة من العالم تطالب بشفافية وعدالة في عملية تدريب الذكاء الاصطناعي، منها ما يتطلب الكشف عن المواد المستخدمة، أو وضع نظام يسمح لصاحب النص أو الصورة بالانسحاب من عملية التدريب، أو فرض تعويض مالي مقابل توظيف أعمالهم، أو حتى استحداث حق رقمي جديد للأشخاص من حيث الصوت أو المظهر، إلا أن هذه القوانين ما تزال في مراحل مبكرة وقد لا تُنفّذ إذا صنفت المحاكم استخدام تلك الأعمال ضمن دائرة الاستخدام العادل.

كما أن هناك توجهًا لتوسيع حماية الملكية الفكرية ليس فقط للنصوص والمحتويات النهائية، بل أيضًا للجهود الإبداعية البشرية المبذولة في توجيه عملية الإنتاج عبر الذكاء، مما قد يفتح الباب أمام تقنين فكرة أن التوجيه الإبداعي نفسه يستحق حماية قانونية.

في خضم كل هذه التطورات تبدو قوانين حقوق النشر غير قادرة لوحدها على ضبط العلاقة المستقبلية بين الإنسان والآلة، إذ إن التحولات الثقافية والإبداعية باتت أكثر عمقًا مما كان عليه الأمر في الماضي، وقد اقتضت التحركات تشكيل إطار تشريعي وأخلاقي جديد يراعى كل الأطراف ويحفظ الحقوق ويحمّل المسؤوليات.

والسؤال الذي يبقى هو: هل يمكن لنا كفنانين ومبدعين ومشرّعين أن نعيش إلى جانب الذكاء الاصطناعي دون أن يفقد الإبداع جوهره وهويته، وهل نستطيع تحقيق رؤية تضمن لكل طرف حقه وتعيد صياغة ما يعنيه أن تكون قصتك ملكًا لك في عالم بات مولّدًا أكثر مما هو مكتوب؟

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى