تكنولوجيا

تيك توك تُشدّد الأحزمة

التجارة الإلكترونية تحت المجهر وسط ضغوط أمريكية

كانت تيك توك، المنصة الأشهر لمقاطع الفيديو القصيرة، قد دخلت سوق التجارة الإلكترونية بثقة كبيرة، محاولة تكرار تجربة تطبيق “دوين” الصيني الذي حصد نجاحات مالية مذهلة في آسيا.


غير أن الطموح الغربي اصطدم بواقع مختلف، خاصة في السوق الأمريكية، حيث لم تحقق منصة “متجر تيك توك” الأهداف المرجوّة. وها هي اليوم تُطلق حزمةً من الإجراءات التقشفية، تُعيد من خلالها تقييم أولوياتها، وتعيد هيكلة نموذجها التشغيلي في محاولة لتحقيق الكفاءة، وتقليص النفقات، وتعويض الخسائر.

التقشف كخيار استراتيجي

خلال الأشهر الماضية، بدت ملامح التحوّل واضحة في سياسة تيك توك الداخلية، إذ بدأت الشركة بإجراءات حازمة لتقليل النفقات. تضمنت هذه الخطوات تسريح الموظفين بناءً على الأداء، إعادة ضبط آليات العودة إلى المكتب، وتطبيق سياسات تقشف في ميزانيات السفر والإقامة. هذه الإجراءات، بحسب تسريبات الموظفين، ليست فقط ردّ فعل على ضعف أداء متجر تيك توك، بل تأتي ضمن خطة أوسع تتبنّاها الإدارة العليا لبناء نموذج تشغيلي أكثر رشاقة وأقل تكلفة.

الرئيس التنفيذي يقود حملة التطهير الداخلي

“شو زي تشيو”، الرئيس التنفيذي لتيك توك، لم يخفِ نواياه في تقليص الإنفاق وإعادة هيكلة الفرق. ففي فبراير الماضي، أعلن صراحةً عن رغبته في “إزالة الطبقات غير الضرورية” من فرق العمل، ومراجعة أداء الوحدات التشغيلية كافة. جاء هذا التحوّل بعد مرحلة من التوسع السريع والاستثمار المكثف، أفرزت بيئةً معقدة من القرارات والموازنات التي أثقلت كاهل الشركة.

عندما قررت تيك توك الدخول بقوة إلى عالم التجارة الإلكترونية، ضخت مئات الملايين من الدولارات لبناء منصة تسوق منافسة لعمالقة مثل أمازون. لكن متجرها لم يحقق النتائج المتوقعة في الولايات المتحدة، وهو ما دفع الإدارة إلى استهداف هذا القسم تحديدًا في جولات التسريح الأخيرة. بعض الموظفين تحدّثوا عن إعادة توجيه الأهداف الفصلية نحو مؤشرات واضحة مثل الربح والقيمة الإجمالية للبضائع بدلاً من توسيع القاعدة التشغيلية.

إلغاء الامتيازات

في محاولة لوقف نزيف الأموال، قررت تيك توك تقليص دعم الشحن المجاني الممنوح لبائعيها في المتجر الأمريكي، وهو امتياز كان يشكّل فارقًا في المنافسة مع المنصات الأخرى. وفقًا لمصادر داخلية، فإن هذه الخطوة ستجعل سياسة الشحن أقرب لما تعتمده الشركات المنافسة، لكنها قد تثير استياء بعض الشركاء. فبينما تهدف الإدارة إلى تحقيق توازن مالي، قد تؤثر هذه القرارات سلبًا على العلاقة مع البائعين الصغار.

تيك توك لم تكتفِ بتقليص مزايا البائعين، بل وسّعت سياستها التقشفية لتشمل الموظفين على مستوى عالمي. فقد فرضت ضوابط جديدة على سفر العمل، وطلبت من الموظفين تبرير تفاصيل كل رحلة، مع فرض حدود على أسعار الفنادق وتذاكر الطيران. هذه الإجراءات تُظهر تحوّلًا جوهريًا في ثقافة الشركة، من بيئة مريحة ومليئة بالمحفزات، إلى بيئة تركّز على الانضباط المالي والبقاء ضمن الميزانية.

ضغوط سياسية تُعقّد الصورة

التحديات المالية ليست وحدها ما يُقلق تيك توك، فالبيئة السياسية في الولايات المتحدة تُضيف مزيدًا من الضغط على الشركة الصينية. فالقانون الذي أقرّته إدارة الرئيس دونالد ترامب عام 2024، والذي يُلزم ببيع عمليات تيك توك الأمريكية لشركات محلية، لا يزال يُلقي بظلاله. وإذا لم تنجح الشركة في التوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص، فقد تواجه الحظر الكامل من السوق الأمريكية، ما يُهدد استثماراتها ويُقلل من جدوى التوسع الإلكتروني في المنطقة.

إضافة إلى الضغوط السياسية، تأثرت منصة “متجر تيك توك” بالتعريفات الجمركية المفروضة على البضائع المستوردة. بيانات داخلية كشفت عن انخفاض في حجم الطلبات بنسبة تصل إلى 20 بالمائة في ماي مقارنة بشهر أبريل، بعد دخول هذه الرسوم حيّز التنفيذ. هذه النسبة تُعد مؤشرا خطيرا على هشاشة نموذج الأعمال الذي اعتمد على تقليل كلفة البضائع كأداة تسويقية، دون تأمين بدائل محلية قوية.

تحول القيادة وتغيير الاستراتيجية

ردا على هذه المتغيرات، أعادت الشركة هيكلة القيادة داخل قسم التجارة الإلكترونية، ومنحت صلاحيات أوسع لمديرين لديهم خبرة في إدارة تطبيق “دوين” الصيني. ويأمل هذا التغيير في تعزيز الأداء من خلال استنساخ التجارب الناجحة في الشرق الأقصى، غير أن السوق الأمريكية تختلف جذريًا من حيث التشريعات، أنماط الاستهلاك، والمنافسة، ما يُصعّب تكرار النجاحات السابقة بسهولة.

يبدو أن تيك توك تعيش مرحلة إعادة توازن، تحاول خلالها إنقاذ مشروعها التجاري من الانهيار، وسط بيئة سياسية واقتصادية لا تخلو من التحديات. نجاحها في تجاوز هذه المرحلة يتوقف على قدرتها على التكيف، لا فقط من خلال خفض التكاليف، بل بإعادة بناء الثقة مع المستهلكين، والبائعين، والسلطات الأمريكية. فهل تنجح المنصة التي أسرت العالم بمقاطعها القصيرة في إطالة عمر متجرها الرقمي، أم أن زمن الرهانات الكبرى قد ولّى؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى