
توجيه المحتوى الرقمي بالعاطفة .. في عالمٍ تسيطر عليه الخوارزميات والشاشات. أصبح المحتوى الرقمي أكثر من مجرد وسيلة للتواصل، بل تحوّل إلى لغة جديدة تُعبّر بها العلامات والمؤسسات عن نفسها، وتبني من خلالها روابط مع الجمهور. غير أن هذه اللغة لم تعد تُقاس فقط بعدد المشاهدات أو الإعجابات، بل بمدى قدرتها على لمس العاطفة الإنسانية. في ظل هذا التحول الرقمي المتسارع، أضحى توجيه المحتوى بما يتناسب مع المشاعر خطوة أساسية لبناء الثقة والتأثير، خصوصًا في فضاءات مثل منصات التواصل الاجتماعي التي تتغذى على التفاعل العاطفي قبل أي شيء آخر.
العاطفة كمحرّك خفي في بيئة رقمية مشبعة بالمحتوى
حين يتصفح المستخدم مواقع التواصل الاجتماعي، فهو لا يبحث بالضرورة عن معلومة جديدة، بقدر ما يبحث عن إحساس بالانتماء أو التفاعل أو حتى التفريغ العاطفي. لذلك، أصبحت المنصات الرقمية اليوم مساحاتٍ تُدار بالعاطفة بقدر ما تُدار بالبيانات.
في تقريرٍ حديث حول “التسويق العاطفي في العصر الرقمي” نشره موقع ResearchGate، أكّد الباحثون أن المحتوى الذي يُوجَّه بناءً على فهم المشاعر الإنسانية يحقق معدلات تفاعل أعلى بنسبة تتجاوز 60٪ مقارنة بالمحتوى المحايد، لأن المستخدم يشعر بأن الرسالة «تُخاطبه شخصيًا».
من هنا بدأت الرقمنة تتحول من أداة لنقل المعلومات إلى وسيلة لقراءة المشاعر وتوظيفها. إذ باتت الخوارزميات قادرة على تحليل نبرة الصوت في مقاطع الفيديو، وتعابير الوجه في الصور، وحتى طبيعة التعليقات لتقدير المزاج العام للمستخدمين. هذا ما مكّن شركات كثيرة من تصميم محتواها وفق الحالة النفسية لجمهورها، سواء كان ذلك لبثّ الأمل، أو تعزيز الثقة، أو التفاعل الإيجابي في أوقات الأزمات.
إن نجاح أي محتوى رقمي اليوم لا يُقاس فقط بعدد المشاهدات، بل بمدى «تأثيره النفسي» في الجمهور. فالمستخدم قد ينسى نصًا تقنيًا باردًا، لكنه لن ينسى مقطعًا قصيرًا جعله يبتسم أو يبكي أو يشعر بالتقدير. هنا تتجلّى قوة العاطفة كأداة استراتيجية في صناعة المحتوى، وتظهر أهمية توجيهها ضمن المنظومة الرقمية الحديثة.
توجيه المحتوى الرقمي بالعاطفة .. لغة جديدة للتواصل
تُظهر التجربة الرقمية اليومية أن التكنولوجيا، رغم برودها الظاهري، أصبحت أكثر قدرة على فهم الإنسان من أي وقت مضى. فكل نقرة، وكل إعجاب، وكل توقف قصير على منشور، تُعدّ اليوم مؤشّرًا عاطفيًا تُحلّله المنصات وتستثمره لتقديم محتوى أكثر ملاءمة.
على سبيل المثال، تعتمد خوارزميات “إنستغرام” و”تيك توك” على قراءة التفاعل العاطفي للمستخدم من خلال مدة المشاهدة وطبيعة التفاعل (رمز قلب، تعليق إيجابي أو غاضب…)، لتقترح لاحقًا محتوى يتماشى مع حالته المزاجية. هذه الديناميكية جعلت العاطفة عنصراً مركزياً في رسم ملامح التجربة الرقمية، ودفعت المؤسسات الإعلامية والمسوّقين إلى إعادة التفكير في طريقة صياغة المحتوى نفسه.
ووفقاً لتقرير نشره موقع Noble Studios المتخصص في التسويق الرقمي، فإن «العاطفة أصبحت لغة استراتيجية في العالم الرقمي، تُستخدم لبناء الهوية الرقمية وتعزيز الثقة بين العلامة والمستخدم». لم يعد الجمهور يتجاوب مع النصوص الدعائية الصريحة، بل مع القصص الإنسانية التي تشبهه.
في هذا السياق، تلعب الرقمنة دور الوسيط الذكي بين الإنسان والمعلومة، إذ تمكّن صانع المحتوى من اختبار الانفعالات في الوقت الحقيقي، ومعرفة ما إذا كانت رسالته تثير الفرح أو الملل أو الغضب. بفضل التحليلات الرقمية، أصبح بالإمكان تتبع «النبض العاطفي» للمستخدمين، وتكييف الرسائل لتنسجم مع توقعاتهم اللحظية.
تجربة المنصات الإخبارية الكبرى تؤكد ذلك، فالكثير منها لم يعد يعتمد على العناوين الجافة، بل يستخدم العناوين العاطفية التي تحفز الفضول أو التعاطف، لأن العقل الرقمي لا يتحرك دون دفعة من المشاعر.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير لموقع Bannerflow إلى أن «المحتوى الذي يثير المشاعر الإنسانية يُحقق تفاعلاً مضاعفًا مقارنة بالمحتوى المعلوماتي البحت»، ما يعني أن مستقبل التواصل الرقمي سيكون مرهونًا بمدى قدرة العلامات والمؤسسات على مخاطبة العاطفة الإنسانية ضمن بيئة رقمية ذكية.
كيف نوازن بين العاطفة والوعي الرقمي؟
رغم أهمية البعد العاطفي في بناء العلاقات الرقمية، إلا أن الإفراط في استغلاله قد يُفقد المحتوى مصداقيته. فالعاطفة، كما يرى خبراء الإعلام الرقمي، سلاح ذو حدّين: إمّا أن تُقرّب المستخدم من العلامة، أو أن تُثير شكوكه إن شعر بأنه يتعرض للتلاعب. لذلك، أصبح التوازن بين الرقمنة والعاطفة ضرورة لضمان تواصل مستدام وصادق.
يؤكد تقرير موقع Pulse Advertising أن المحتوى العاطفي يفقد تأثيره حين يُستخدم بشكل مُفتعل أو مفرط، وأن الحفاظ على الصدق الإنساني في العالم الرقمي هو التحدي الأكبر في عصر “الذكاء العاطفي الاصطناعي”. فالمستخدم الحديث بات أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على تمييز المحتوى المصنوع بدافع تجاري من ذاك الذي ينطلق من نية حقيقية في التواصل.
من جهة أخرى، فإن الرقمنة منحت صانع المحتوى أدوات لقياس هذا التوازن، مثل تحليل المشاعر ومتابعة ردود الفعل في الزمن الحقيقي، ما يتيح تصحيح الرسائل فورًا. وهكذا تتحول العملية الإبداعية إلى حوار مستمر بين الإنسان والخوارزمية، بين المشاعر والبيانات، وبين الصدق والإقناع.
على مواقع مثل فيسبوك ويوتيوب، تتجلى هذه الموازنة بوضوح، إذ تُعطى الأولوية للمحتوى الذي يجمع بين الجانب الإنساني والمعرفة الرقمية، وبين الدفء العاطفي والوضوح المعلوماتي. هذا المزيج هو ما يصنع في النهاية محتوى «قابلاً للتذكّر»، لأن العاطفة وحدها تُحرّك، لكنها لا تُقنع، والعقل وحده يُقنع، لكنه لا يُحرّك.
في هذا الإطار، يُحذّر خبراء الإعلام من ظاهرة ما يسمى بـ«التلاعب العاطفي الرقمي»، أي المحتوى الذي يستغل المشاعر بشكل مباشر لجذب التفاعل، دون أن يقدم قيمة حقيقية. لذا، فإن أخلاقيات الرقمنة باتت اليوم تُطالب بصناعة محتوى عاطفي مسؤول، لا يثير الخوف أو الغضب أو الحزن بهدف الربح، بل يُوجّه نحو تعزيز الوعي الجمعي والتواصل الإيجابي.
محتوى المستقبل… عاطفي بقدر ما هو رقمي
لقد غيّرت الرقمنة طريقة فهمنا للمشاعر، كما غيّرت المشاعر طريقة تفاعلنا مع الرقمنة. فالإنسان، رغم كل التطور التكنولوجي، ما زال كائناً عاطفيًا أولًا، يبحث في كل تجربة رقمية عن صدىً إنسانيّ يعكسه. لهذا، فإن توجيه المحتوى الرقمي بما يتناسب مع العاطفة ليس رفاهية تسويقية، بل ضرورة اتصالية لبناء الثقة والتفاعل في عالم تُحكمه الخوارزميات.
تظل مواقع التواصل الاجتماعي اليوم الساحة الأبرز التي تكشف لنا هذه الحقيقة: فالمحتوى الذي ينجح في البقاء، هو ذاك الذي يتحدث بذكاء الخوارزميات ودفء الإنسان في آن واحد.
ففي النهاية، التكنولوجيا لا تُلغِي المشاعر، بل تمنحها لغة جديدة — لغة رقمية تتحدث إلى القلب قبل أن تصل إلى الشاشة.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله



