
في السنوات الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة تحمل اسمًا مثيرًا للانتباه وهو “المخدرات الإلكترونية”. هذه الظاهرة لا تعتمد على مواد كيميائية أو مواد قابلة للاستنشاق أو الحقن، بل تقوم على ترددات صوتية يُسمع كل منها في أذن مختلفة، ليُنتج الدماغ صوتًا ثالثًا يُعتقد أنه قادر على التأثير على الحالة الذهنية للإنسان.
الفكرة الجوهرية في هذه الظاهرة، هي أن الأذن اليمنى تستقبل صوتًا بتردد معين، مثل 300 هرتز، فيما تستقبل الأذن اليسرى صوتًا آخر بتردد مختلف قليلًا مثل 310 هرتز، فيقوم الدماغ بتحليل الفرق بين الترددين ويُركب صوتًا ثالثًا بتردد 10 هرتز، يُعرف باسم “النغمة الثنائية” أو “التداخل الثنائي”. هذا الصوت لا يُسمع خارجيًا بل يُنشأ داخليًا في المخ، ويُعتقد أنه يؤثر على نشاط الدماغ بطريقة مشابهة لتحفيز موجات دماغية محددة.
يُشير بعض الباحثين إلى أن هذه النغمة قد تؤدي إلى مزامنة موجات الدماغ مع التردد الناتج، ما قد يُسبب تغيرًا في المزاج أو التركيز أو حتى الإحساس بالاسترخاء. ويُقسّم العلماء نشاط الدماغ إلى موجات تتفاوت في التردد من موجات دلتا التي تراوح بين 1 و4 هرتز وترتبط بالنوم العميق، إلى موجات بيتا وجاما التي ترتبط باليقظة والتفكير المكثف. وبالتالي، يُعتقد أن التلاعب بهذه الترددات من خلال النغمات الثنائية قد يساعد في تحفيز حالات ذهنية مختلفة.
الدراسات التي تناولت هذه الظاهرة خرجت بنتائج متباينة، ففي مراجعة علمية نشرتها مكتبة البحوث الطبية الأمريكية، تم تحليل 22 دراسة وُجد فيها أن الاستماع إلى هذه النغمات الصوتية قد يُساهم في خفض القلق وتحسين الشعور بالراحة النفسية، خاصة عندما تكون الجلسات مدتها تتجاوز العشر دقائق. وفي دراسة سريرية أُجريت في مراكز طبية متخصصة، تبيّن أن المرضى الذين استمعوا إلى النغمات الثنائية قبل الخضوع لجراحات بسيطة شعروا بقلق أقل واستخدموا أدوية مسكنة بكميات أقل من المعتاد. هذه النتائج جعلت بعض المراكز الطبية تُجرّب استخدام هذه الأصوات كمكمل غير دوائي في العلاجات النفسية والجسدية.
في المقابل، لم تجد دراسات أخرى أي تأثير يُذكر لهذه الأصوات، بل أشارت إلى أن نتائجها قد لا تتجاوز تأثير الموسيقى الهادئة أو الضوضاء البيضاء، وأن العامل النفسي أو الإيحاء قد يكون هو المحرك الحقيقي للإحساس بالراحة أو النشوة عند بعض المستمعين. كما لم يثبت علميًا أن هذه النغمات يمكن أن تُسبب حالة من “الهلوسة الواعية” أو “النشوة الشبيهة بالمخدرات”، كما يُروَّج في بعض المواقع والتطبيقات. بل إن الباحثين يؤكدون أنه لا يمكن مقارنتها بتأثير المواد المخدرة التقليدية مثل الحشيش أو الأدوية النفسية، لا من حيث الشدة ولا من حيث التأثير على المراكز العصبية في الدماغ.
رغم هذا الجدل، أصبح استخدام النغمات الثنائية شائعًا على منصات المحتوى الصوتي، وتنتشر مقاطع تُوصف بأنها تساعد على النوم أو التركيز أو رفع المزاج، وبعضها يُقدَّم كبديل رقمي للمخدرات دون الإشارة إلى أنها ليست بديلاً طبيًا معتمدًا. ويُجمع الأطباء النفسيون على أن استخدامها لا يُشكّل خطرًا مباشرًا على الصحة النفسية أو الجسدية، لكنها قد تكون مضللة للبعض الذين يبحثون عن الهروب من مشكلاتهم العميقة من خلال حلول رقمية سطحية. ويُحذّر بعض المختصين من الاعتماد المفرط عليها، خصوصًا لأولئك الذين يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية دون إشراف طبي.
من الناحية التقنية، لا تعمل هذه الأصوات إلا من خلال سماعات رأس تعمل بتقنية الصوت المجسم، حيث يجب أن تصل الترددات الدقيقة إلى كل أذن على حدة لتحقيق التأثير الكامل. ويُفضل الاستماع في بيئة هادئة مع ضبط الصوت على درجة منخفضة ومريحة لتجنب الصداع أو الإزعاج السمعي، خاصة لمن يعانون من حساسية في الأذنين أو الجهاز العصبي.
فيما يتعلق بإعادة تأهيل هذه التقنية كأداة مساعدة في العلاج أو التعليم أو النوم، فإن عددًا من الدراسات الحديثة بدأت بتقييم فعاليتها في بيئات أكاديمية وطبية. وقد تم تسجيل بعض التحسن في قدرة التركيز لدى الطلاب عند الاستماع إلى ترددات بيتا العالية، بينما سجلت ترددات دلتا أثرًا إيجابيًا في تقنيات التأمل والاسترخاء والنوم. ولكن رغم هذه الملاحظات، فإن المجتمع العلمي لا يزال يطالب بالمزيد من التجارب المحكمة والمراقبة لتأكيد هذه الفوائد وربطها بنشاط الدماغ الفعلي عبر أدوات مثل تخطيط الدماغ الكهربائي.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن “المخدرات الإلكترونية” تسمية مضللة لظاهرة صوتية قد يكون لها تأثير نفسي طفيف أو محدود، وقد تختلف الاستجابة لها من شخص إلى آخر. البعض قد يجد فيها وسيلة للاسترخاء والراحة النفسية، بينما لا يشعر البعض الآخر بأي تأثير على الإطلاق. ويفضل المختصون استخدام مصطلحات علمية أدق مثل “النغمات الثنائية” أو “الترددات الصوتية المتزامنة” بدل استخدام مصطلحات تُشبهها بالعقاقير، لما في ذلك من تهويل أو إيحاءات غير مدعومة علميًا.
في النهاية، تبقى المخدرات الإلكترونية تقنية صوتية مثيرة للفضول، وقد تُساهم في تحسين الحالة النفسية لبعض الأشخاص إذا استُخدمت بوعي وتحت إشراف، لكنها ليست بديلا عن العلاجات الطبية أو النفسية الموثوقة، ولا يجب الانخداع بالدعايات المنتشرة التي تُصورها كبديل رقمي للمخدرات الحقيقية. فالعلم لا يزال في بداياته لفهم هذه الظاهرة بكل أبعادها وتأثيراتها الممكنة على الدماغ البشري.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله