تحت شعار تلمسان منازل الكتابة وفي إطار البرنامج الثقافي المسطر خلال شهر أكتوبر الجاري، ينظم مركز الفنون والمعارض بالتنسيق مع المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية محمد ديب، معرضا متنوعا إحياء للذكرى الأديب المتميز محمد ديب.
يحكي المعرض في تفاصيله عن مسالك الكتابة، فضاءات الحرية، دار السبيطار، طفولة الفن، حدائق الخلود، الأخوة الثلاثة وأماكن الكتابة من أجل التعرف والتعريف بمؤلفات الكاتب محمد ديب، الذي يعتبر من بين الأدباء القلائل الذين جمعوا بين الثقافة والأدب والتاريخ. وجاءت هذه المبادرة لتسلط الضوء على الجانب الفني المجهول من منجزه الإبداعي، من خلال عرض عملين تشكيليين رسمهما بنفسه ومجموعة من الصور الفوتوغرافية.
ورغم ما قيل فيه إلا أن الروائي محمد ديب، بقي أبا للرواية الجزائرية وابرز الوجوه الأدبية المعاصرة، حيث ولد الكاتب الذي توفى سنة 2003 في مدينة تلمسان العريقة في عائلة حرفية ودخل إحدى المدارس القليلة التي كان الاستعمار الفرنسي يفتحها أمام السكان المحليين، وواصل تعليمه الابتدائي والثانوي من جهة، كما بدأ من جهة أخرى حياته المهنية وعمره لا يتجاوز أثنتي عشرة سنة، فعمل حائكا ومحاسباً، وبعد ذلك اشتغل في مهن أخرى في التعليم وموظفا في السكك الحديدية، ومترجما لدى القوات الحليفة باللغتين الفرنسية والانجليزية، وصحفيا ثم مصمما لرسوم السجاد.
لقد سمحت له هذه الوظائف المتعددة بمخالطة الطبقة الوسطى ومعايشة طبقة الفقراء التي تبنى مطالبها بعد ذلك في كتاباته، كما أنها نمّت لديه الدقة في الملاحظات وصحة الانتقادات، وجاء الاعتراف بموهبته منذ البداية. لقد حدثت له مشكلات مع الإدارة الفرنسية في الجزائر، فهاجر إلى فرنسا ذاتها، حيث كان ممثلا للروح الجزائرية الثائرة لدى نخبتها المثقفة، وكان هناك غزير الإنتاج لكن دون أن تخل كثرة كتاباته بجمال أسلوبه.
منذ سنة 1970، استقر في بلدان عديدة خاصة في أمريكا وفنلندا التي وسمت أعماله الأخيرة بكثير من سماتها، وكانت جامعات عريقة كثيرة تستضيفه لإلقاء سلاسل من المحاضرات. كما أنه كتب مقالات عديدة واجري لقاءات مختصة حول أعماله والحقل الثقافي الذي انطلقت منه. تنبض أعمال محمد ديب على الرغم من لغتها الفرنسية بأحاسيسها وخيالها العربي الإسلامي التي أذكتها حياة الهجرة والاغتراب التي عاشها. لقد إستمدها من الحياة اليومية لمدينته الأصلية تلمسان العاصمة الثقافية والدينية للغرب الجزائري، ووريثة الحرف والمهن والعلوم والفنون الأندلسية.
يقول أحد الكتاب إن قراءة كتابات محمد ديب، تفتح الأبواب على مصراعيها لروح هذه الثقافة، وقد جعلها مقابلة لروح الحضارة الغربية التي درسها في المدرسة وقرأ عنها ثم عايشها، بل إنه في آخر أعماله أضاف إلى أعماله أيضا بعد استقراره في فنلندا، أساطير الشمال وقد جعل محمد ديب من دار سبيطار ذلك السكن الشعبي في ثلاثيته الشهيرة (الحريق ـ الدار الكبيرة) مهنة الحياكة الفضاء الذي كشف فيه عن المآسي الاجتماعية والوجودية للشعب الجزائري الواقع تحت الاستعمار وليس من المبالغة القول إن (ثلاثية ديب)، فسيفساء حقيقية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما تركته من أجواء اجتماعية سياسية على المجتمع الجزائري ستؤدي بعد ذلك الى اندلاع الثورة، كما انها صورت صحوة العقل والضمير الفردي على الحقائق التاريخية، بل والنفسية الاجتماعية المحيطة به.
تكمن جمالية كتابات محمد ديب إذن، في ذلك المزج المتناسق بين الخطاب السياسي والأسلوب الشاعري الذي جعل من النص الأدبي لائحة للمطالب الوطنية وصرخة لاحياء الضمائر وبعد ثلاثيته الشهيرة دخل محمد ديب، بكتابه (من يتذكر البحر)، وكانت الظروف قد تغيرت في الإشكالية المعاصرة للكتابة حيث تخلى عن محاكاة الواقع إلى تنظيم دلالي يصور الواقع مع اجتناب المشابهة. وبتخليه عن الجمالية الواقعية، لا تتغير كتابته من ناحية الشكل فقط، بل إنها تبتعد نهائيا عن كونها أداة معرفية إلى كونها تساؤلات حول الإنسان وتعبيراً عن صعوبة الوجود في عالم معاد رواية من يتذكر البحر رواية سحرية أبطالها تحركهم اشارات غريبة تسير حياتهم كلها ابتداء من أخص خصائصهم إلى أكثرها عمومية وتظهر فجأة عند كل متعرج حاسم من حياتهم الداخلية وبعد كتابه (رقصة الملك) الذي رسم فيه خيبة مجاهدي الأمس في جزائر ما بعد الاستقلال، جاءت رواياته مثل (يد الصيد) لتكون حوار أفكار حول المشروع الاجتماعي للجزائر، يمكن القول إنها كانت عودة إلى الواقعية وان كانت جديدة لبحث التحديات الوجودية الجديدة المختلفة تماما عن تلك المتوقعة في كتبه السابقة.
جرفاوي. ع