
في زمن تتسارع فيه وتيرة النهضة التكنولوجية، بات الذكاء الاصطناعي محور نقاشات حادة حول دوره في حياتنا اليومية، وتحديدًا في علاقاتنا الاجتماعية.
وقد أثار مؤسس شركة “ميتا”، “مارك زوكربيرغ”، جدلًا واسعًا حين تحدث عن إمكانية أن يسد الذكاء الاصطناعي الفراغ الذي يتركه غياب الأصدقاء، معتبرًا أن هذه التقنية قد تصبح بديلًا لمن يعانون من الوحدة. فهل يمكن فعلًا أن يصبح الذكاء الاصطناعي صديق الإنسان؟ وماذا يقول علم النفس عن هذه الفرضية؟
“مارك زوكربيرغ”: “الذكاء الاصطناعي كعلاج للوحدة”
في مقابلة أجريت في أبريل الماضي ضمن بودكاست متخصص في التكنولوجيا، أعرب “زوكربيرغ” عن اعتقاده بأن الأشخاص يشعرون بحاجة لعدد أكبر من الأصدقاء، موضحًا أن المواطن الأمريكي العادي يعتبر ثلاثة أشخاص فقط أصدقاء مقربين، بينما يرغب في علاقات اجتماعية مع ما يقارب خمسة عشر شخصًا. وفقًا له، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون الجسر الذي يربط الأشخاص الوحيدين بعلاقات جديدة، وإن كانت افتراضية.
علم النفس يعارض: لا بديل عن العلاقات الحقيقية
رغم نوايا “زوكربيرغ” الطموحة، إلا أن علماء النفس يبدون تحفظًا شديدًا تجاه هذا الطرح. فقد أكد الدكتور “عمري جيلاث”، أستاذ علم النفس بجامعة كانساس، أن العلاقات التي يبنيها الإنسان مع أشخاص حقيقيين لا يمكن تعويضها عبر تقنيات اصطناعية، حتى لو بدت متقنة. وقال “جيلاث” في تصريحات لشبكة إخبارية: “لا توجد أدلة علمية تدعم فكرة أن الذكاء الاصطناعي قادر على تعويض العلاقات العاطفية أو الاجتماعية الإنسانية”.
الذكاء الاصطناعي: دعم مؤقت أم خطر عميق؟
يرى “جيلاث” أن الأصدقاء الاصطناعيين قد يمنحون شعورًا مؤقتًا بالدعم والاهتمام، خصوصًا بفضل توفرهم الدائم وحسن تفاعلهم، إلا أن ذلك لا يرقى إلى العمق العاطفي والروحي الذي توفره الصداقات الحقيقية. ويقول: “صديقك الاصطناعي لن يعرفك على أشخاص جدد، ولن يتقاسم معك عناقًا دافئًا، ولن يعيش معك تجارب حياتية حقيقية”.
الوهم العاطفي: مشاعر قد تكون زائفة
المثير للقلق أن البعض قد يطوّر تعلقًا عاطفيًا حقيقيًا تجاه شخصيات الذكاء الاصطناعي، كما حدث في حالات موثقة، بينها امرأة عبّرت عن حبها لروبوت محادثة يعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي. إلا أن “جيلاث” يحذر من خطورة مثل هذه التعلقات، واصفًا إياها بأنها “علاقات زائفة” لا يمكن أن تشبع الحاجات النفسية والاجتماعية للإنسان، لأنها تفتقر إلى التفاعل الشعوري الحقيقي.
الانعكاسات النفسية على الأطفال والمراهقين
تشير الدراسات الحديثة إلى أن استخدام الأطفال والمراهقين لتطبيقات الذكاء الاصطناعي بغرض التواصل أو بناء صداقات، قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب بينهم.
ويرجع ذلك إلى غياب التدريب على المهارات الاجتماعية الحقيقية، مثل التفاعل المباشر، الإصغاء، التعبير عن المشاعر، وتلقي ردود الفعل الواقعية.
مخاطر مضاعفة في ظل أجندات الشركات
يرى المختصون أن الترويج لاستخدام الذكاء الاصطناعي كبديل عن العلاقات الإنسانية ليس نابعًا من نوايا إنسانية خالصة، بل يرتبط بمصالح اقتصادية كبرى.
ويقول “جيلاث”: “علينا أن ندرك أن شركات التكنولوجيا تسعى للربح، وهي لا تطلق هذه التطبيقات بدافع الاهتمام النفسي بالمستخدم، بل من أجل جني الأموال”. لذلك، من الضروري أن يطرح هذا النقاش في سياقه الأوسع، الذي يشمل البُعد التجاري والاستغلالي لهذه التقنيات.
الحلول المقترحة: التوازن لا الاستبدال
بدلًا من أن نستخدم الذكاء الاصطناعي كبديل عن العلاقات الحقيقية، ينصح الخبراء باستخدامه كوسيلة مساعدة أو ترفيهية. فمثلًا، يمكن أن يساهم في ملء أوقات الفراغ أو تطوير المهارات اللغوية، ولكن لا ينبغي أن يأخذ مكان الأصدقاء، ولا أن يعوّض التجارب الحية. ويوصي علماء النفس بالانخراط في أنشطة اجتماعية مثل النوادي الثقافية، أو الأعمال التطوعية، أو الأنشطة الرياضية، لبناء علاقات فعلية تقوم على التفاعل البشري المباشر.
الحاجة إلى إنسانية حقيقية
رغم ما يوفره الذكاء الاصطناعي من أدوات مذهلة وتفاعل محاكي للواقع، إلا أن العلاقات الإنسانية تظل فريدة لا يمكن تقليدها أو اختزالها في محادثة مع آلة. الإنسان بحاجة إلى الآخر ليس فقط لسماع صوته، بل للشعور به، ولمشاركة التجارب، ولتلقي الدعم الحقيقي في لحظات الفرح والحزن. ومهما بلغ الذكاء الاصطناعي من تطور، فإن القلب البشري سيبقى يبحث عن دفء إنساني لا يولّده إلا إنسان آخر.