المجتمع

بعد ما تخلى المجتمع عن خدمتها

"ساعي البريد"...مهنة تقاوم الانقراض بسبب البريد الإلكتروني

ساعي البريد التقليدي، الذي كان جزء من يوميات المرسلين والمتلقين، في المدن والأرياف، أين أصبح الآن…؟ ماذا فعلت به تكنولوجيا الاتصال…؟ هل هو فعلا ضحية للرسائل النصية القصيرة…؟

 

في التحقيق التالي، سنقف على معظم أجوبة عن هذه الأسئلة. تتجه مهنة ساعي البريد نحو الاختفاء مثلها مثل عدد من المهن والوسائل التقليدية… فعلى الرغم من أن ساعي البريد في الجزائر لا يزال يقوم بعمله، إلا أن ظهوره لم يعُد كما كانت عليه الحال سابقاً، لتبقى مكانته رفيعة واحترامه واسعا لدى وسط كبار السن، تقديرا لدور قدمه سابقاً بتفانٍ وأمانة.

لقـد ألفـناه ذلك الرجل على دراجته الهوائية أو مشيا على الأقدام، عرف بملابسه المميزة، المرتدي لزيه الكلاسيكي، وقبعته، والحامل لحقيبته الجلدية باللون البني الغامق، والذي رسم في مخيلة الطفولة، يتنقل بين الأحياء، يقف أمام البيت حاملا رسالة خاصة للعائلة، أو بطاقة تهنئة، وغيرها، والتي كانت في زمن مضى، من كلاسيكيات الحياة الاجتماعية، يتبادلها الأقارب والعائلات والأصدقاء، للاطمئنان والسؤال عن الأهل، أو للمراسلة والتعرف، وحتى التهنئة والمعايدة، التي تحمل أحيانا أخبارا مفرحة ومهمة وكأنه تاجر سعادة، أو أخبارا محزنة، تشعر وكأنه يشاركك الأحزان.. هكذا كان ساعي البريد، أحد المهن التي عرفها الجزائريون على غرار الدول العربية الأخرى وغـيرها والعالم منذ عشرات السنين والتي اختفت الآن بفعل الزمن…

نـعـم هو الشخص المكلف بإيصال الرسائل الواردة إلى مكتب البريد الذي يعمل فيه، إلى أصحابها، كان غالباً ما يرتدى زياً خاصاً يدل على مهنته، ينتقل بين المناطق والشوارع، لتسليم الرسائل إلى أصحابها، على الدراجـة، غالباً ما يعرف جميع أهالي المنطقة، وينادى عليهم بالاسم، لدرجة أن بعض الأهالي ممن لا يعرفون القراءة كانوا يثقون به، ويطلبون منه قراءة الرسائل الواردة إليهم، حتى إنه كان يعلم كثيراً من الأسرار والخبايا، ربما لا يعرفها غـيره.

وكان أول طابع بريدى صدر في بريطانيا عام 1840م، ورافق الرسائل البريدية هواية جمع الطوابع البريدية التي انتشرت في مختلف أنحاء العالم، ومنذ هذا الوقت انتشرت مهنة ساعي البريد، ونتيجة التطور التكنولوجي الكبير في وسائل الاتصالات بعد ظهور الإنترنت والبريد الإلكترونى والهواتف المحمولة، تحولت مهنة “ساعى البريد” تدريجياً لتصبح واحدة من المهن الـتراثـية.

فـمنذ أن ظهر البريد الإلكتروني، والاتكال عليه يزداد يوماً بعد يوم والملايين الذين كانوا يخطُّون رسائلهم على الورق ويتوجَّهون إلى مكتب البريد لإرسالها أملا في وصولها إلى وجهتها بعد عشرة أيام، علهم يحظون بجواب بعد عشرين يوماً، صاروا يرسلون رسائلهم من غرفة نومهم إلى أصقاع الأرض المختلفة، ليحصلوا على الأجوبة بعد دقائق، ومعظم أبناء الجيل الشاب اليوم، لم يجد نفسه مضطرا ليكتب رسائله على الورق، ولم يقصد مرة مكتب بريد، ولكن هل يعني ذلك موت البريد التقليدي…؟.

 

ظهور البريد الإلكتروني ساهم في اندثار بعض المهن

أكد أحد الخبراء بولاية تلمسان لـ “البديـل” بروفيسور في مجال تكنولوجيات الإعلام والاتصال والرقمــنة أن جذور البريد الإلكتروني تعــود إلى العام 1973م، تاريخ ابتكار نظام الـ “أربانيت” لنقل المعلومات من جهاز كمبيوتر إلى آخر، وفي مطلع الثمانينيات، تم تحويل نظام الأربانيت إلى الإنترنت ومع ذلك، فإن رسالة إلكترونية نرسلها اليوم، تشبه في أسسها الرسائل التي تبادلت في النصف الأول من السبعينيات، ولكن كان على البريد الإلكتروني أن ينتظر انتشار جهاز الكمبيوتر بين أيدي العامة، كي يصبح وسيلة رائجة لتبادل الرسائل.

وهذا ما حصل منذ الأمس القريب، فقد أعاد البريد الإلكتروني ترتيب الأولويات في حياة المجتمعات، ولم يعد الشباب وحدهم منحازين لهذا النوع من المراسلات، بل انتقلت “عدوى” التكنولوجيا إلى المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والشركات ومؤسسات المجتمع المدني…وغـيرها، بسبب انخفاض كلفة هذه المراسلات من جهة، وسرعة وصولها إلى الجهة المستهدفة من جهة أخرى، مخترقة الفضاء والمسافات الطويلة التي تتطلب وقتاً حتى عند أسرع أنواع المراسلات التقليدية في البريد الإلكتروني، وجد مستخدموه فضاء أوسع، وحرية لم تكن متوافرة لهم في السابق، فلا تخضع رسائلهم للرقابة مهما احتوت من معلومات، وبكبسة زر واحدة يستطيع صاحب الرسالة أن يبعث بها إلى أعداد كبيرة من الأشخاص المستهدفين في مختلف جهات الأرض، بعكس الرسائل التقليدية التي لا تصل إلا لعنوان واحد فقط، ولشخص بعينه دون غيره من الناس، كما صار بإمكان مستخدمي البريد الإلكتروني حيازة أكثر من صندوق بريد في الوقت نفسه، بأسماء وهمية، يستقبلون عبرها رسائل وصورا ووثائق وغيرها من المواد القابلة للإرسال، بالصوت والصورة أيضا، ودفع ذلك بهواة هذا النوع من المراسلات إلى تشكيل مجموعات بريدية، قد تبدو في الظاهر متجانسة، إذ تقوم بتبادل أفكارها وآرائها بين أعضاء المجموعة بسهولة.

وإذا كان رب العائلة الوقور، أو الشاب المتعلم المثقف، هو الذي يحرص على اقتناء صندوق البريد التقليدي في السابق، فإن أفراد العائلة جميعاً، وخاصة من فئة الشباب، ذكوراً وإناثاً يملكون صناديق بريد إلكترونية هذه الأيام، وهي صناديق تبدلت طريقة فتحها لاستلام ما بداخلها فقد تم استبدال المفتاح الصغير الذي تم الحصول عليه من إدارة البريد، بكلمة سر خاصة بالبريد الإلكتروني، تمثل مفتاحاً سحرياً لهذا الصندوق العجيب، ويستطيع الشخص المعني استبدالها في أي وقت يشاء، حفاظاً على سرية مفترضة، وخوفاً من تعرض محفظة رسائله لقرصنة إلكترونية، ومن هنـا لابد من الاعتراف أن الرسالة الإلكترونية سحبت البساط من تحت الرسالة الورقية التقليدية، وهناك الملايين من أبناء الجيل الشاب في وقتنا الحاضر الذين لم يكتبوا أية رسالة ورقية في حياتهم، ولكننا نشدد هنا أن الرسالة التي تلقت هذه الضربة الإلكترونية هي الرسالة الشخصية فقط، أما باقي الرسائل وخاصة في مجال الأعمال، فلا تزال ورقية، وما زالت العمود الفقري للبريد أينما كان في العالم، وللتعويض عن خسارته الكبيرة في عالم الرسائل الشخصية، عرف البريد كيف ينوع خدماته، على صعيد نقل الطرود وفق مستويات مختلفة من السرعة والخدمة، فظهر البريد السريع المعروف باسم “EMS” الذي يغطي حالياً أكثر من سبعين دولة في العالم، ويمكن بواسطته إيصال أية رسالة أو طرد إلى هدفه في مهلة زمنية لا تتجاوز الـ04 أو الـ05 أيام، وإلى ذلك، أضاف البريد إلى خدماته في بعض الدول الحوالات المالية، وإمكانية استصدار جواز سفر عبر مكاتبه وغير ذلك الكثير مما يتنوع بين بلد وآخر.

 

شكرا لساعي البريـد

يحـن الكثير من المواطنين لتلك “المهنة”، هذا ما أكده عدد ممن التقتهم “البديل” خلال هذا الاستطلاع، حول مكانة سعاة البريد في قلوب الجزائريين، حيث أكد هؤلاء، أن تلك المهنة ترسم مظاهر “الزمن الجميل”، وذلك الساعي الذي كان يعرفه جميع سكان الحي، أصبح مع السنوات، أخ وصديق الجميع، وأن اختفاءه اليوم يخلق نوعا من الحنين للماضي، وحتى لجمال تلك السنوات، كلها يوصلها الساعي بكل أمانة لصاحبها، في تاريخ محدد لا تضيع ولا تغيب، حتى وإن طال وصولها…نــعــم لـقــد نسج سكان الأحياء، في وقت سابق، علاقة وطيدة مع سعاة البريد، الذين يتنقلون من بيت لآخر بصفة متكررة، يحفظون بذلك أحيانا أسماء أصحاب المنازل وعناوينهم، ويدركون حتى الرسائل القادمة ممن هي، وقد كون البعض معهم علاقة صداقة قوية ووطيدة، تجعل الساعي لا يكتفي بوضع الظرف البريدي في صندوق البريد، بل يسلمه ليد صاحبه، مما يدل على شدة العلاقة والصداقة، التي تصاحبها ابتسامات عريضة وجميلة، تعكس مدى حفظ الساعي وجوه سكان الحي الذي يزوره يوميا، طيلة مساره المهـني، التي أصبحت تقتـصـر الــيـوم، على بعض الرسائل الإدارية التي لها طابع رسمي، والتي تبعث وفق بروتوكول إداري خاص، يبلغها سعاة البريد من تلك المؤسسات، أو حتى من شركات توزيع الكهرباء والغاز والماء، بل أوكلت مهمة تسليم الفواتير لعمال مكلفين بهذه المهمة لا غير، ولم يعد سعاة البريد يبنون تلك العلاقات الوطيدة مع السكان اليوم، فمع التوسع العمراني، والاكتظاظ السكاني، أصبح بالكاد يتم ملاحظة هؤلاء لدى مرورهم، لاسيما مع اختفاء البدلات الرسمية.

أمـيـر. ع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى