
كشفت شركة “ميتا” في تقريرها الفصلي الأول لعام 2025، عن ارتفاع طفيف في نسب المحتوى العنيف والتنمر والمضايقات على منصة فيسبوك، وهو ما اعتبره كثير من المتابعين نتيجة مباشرة للتغييرات الأخيرة التي أجرتها الشركة على سياسات الإشراف على المحتوى. وأوضحت الشركة في تقرير النزاهة الصادر يوم الخميس أن معدل انتشار المحتوى العنيف ارتفع من مستوى يتراوح بين 0.06 بالمائة و0.07 بالمائة خلال الربع الرابع من 2024 إلى قرابة 0.09 بالمائة في الربع الأول من 2025، بينما ارتفع معدل التنمر والمضايقات من بين 6 إلى 7 مشاهدات لكل 10,000.
هذا الارتفاع الطفيف لكنه الملحوظ يأتي في أعقاب قرارات جوهرية اتخذتها الشركة في مطلع العام، شملت تقليص القيود المفروضة على المحتوى السياسي والاجتماعي، وتعديل تعريف “خطاب الكراهية”، إضافة إلى إلغاء التعاون مع جهات خارجية لتقصي الحقائق.
تخفيف السياسات بدعوى “تعزيز حرية التعبير“
في يناير الماضي، أعلنت “ميتا” عن تغييرات جذرية في سياساتها الخاصة بالإشراف على المحتوى، ووصفتها حينها بأنها خطوة ضرورية لتوسيع نطاق حرية التعبير على منصاتها المختلفة، بما في ذلك فيسبوك وإنستغرام وتطبيق ثريدز. وشملت التعديلات تقليص القيود على الموضوعات ذات الحساسية السياسية مثل الهجرة والهوية الجندرية، كما قامت بإعادة تعريف خطاب الكراهية ليصبح أكثر مرونة في التفسير.
لكن هذه “المرونة” الجديدة، كما وصفها بعض النقاد، فتحت الباب واسعًا أمام أشكال متعددة من المضامين المثيرة للجدل، بل وحتى الضارة، لتجد طريقها إلى المستخدمين دون رقابة كافية، خاصة في ظل استبعاد الهيئات المتخصصة في تقصي الحقائق واستبدالها بنظام داخلي يعتمد على مصادر مجتمعية.
نتائج عكسية رغم وعود التحسين
في حين أكدت الشركة أن هدف هذه التعديلات هو تقليص الأخطاء في إزالة المحتوى وتجنب حجب منشورات بشكل غير مبرر، فإن النتائج الأولية أظهرت وجهًا آخر للتداعيات. فقد أوردت “ميتا” نفسها في تقريرها أن هذه التغييرات ترافقت مع ارتفاع طفيف في انتشار محتوى التنمر والعنف، ما يثير تساؤلات جادة حول ما إذا كانت الشركة قد تسرعت في منح هذه المساحة الواسعة من التعبير دون أدوات رقابة كافية.
المتحدثة باسم الشركة، إريكا ساكين، حاولت التقليل من وقع هذه الزيادة، مشيرة إلى أن الأمر يتعلق بفارق طفيف لا يتجاوز مشاهدة واحدة لكل 10,000 مشاهدة، إلا أن المنصات الرقمية الكبرى تُقاس تأثيراتها بأرقام ضخمة، مما يعني أن هذا الفارق قد يُترجم إلى ملايين المشاهدات شهريًا لمحتوى غير آمن أو مضر نفسيًا.
إلغاء المدققين المستقلين: مخاطرة محسوبة أم تراجع؟
أكثر ما أثار الجدل في التغييرات الأخيرة هو قرار “ميتا” إنهاء التعاون مع المدققين المستقلين الذين كانت تعتمد عليهم في رصد المعلومات المضللة وتقييم مصداقية المحتوى. وبدلاً من ذلك، اعتمدت الشركة على نظام “ملاحظات المجتمع”، الذي يعتمد على تفاعل المستخدمين ومساهماتهم الجماعية في تصحيح المعلومات.
لكن هذا النظام، المستوحى جزئيًا من تجربة منصة “إكس” (تويتر سابقًا)، تعرّض لانتقادات واسعة كونه يفتقر إلى التخصص والحيادية، ما يجعله عرضة للتحيزات الجماعية أو الحملات الموجهة. وهو ما يعني، بحسب مراقبين، أن المنصة قد تفقد قدرتها على مواجهة حملات التضليل المنظم أو الترويج للعنف اللفظي والتحريضي، لا سيما في ظل صعود الخطاب المتطرف عبر الإنترنت.
انخفاض في “معدل الأخطاء”… ولكن
من النقاط التي تباهت بها “ميتا” في تقريرها هو انخفاض معدل الأخطاء في إزالة المحتوى، إذ تشير البيانات إلى أن نسبة المنشورات التي كانت تُزال عن طريق الخطأ قد انخفضت إلى النصف. ففي السابق، كانت الشركة تُقدّر أن منشورًا أو اثنين من بين كل عشرة يُزال خطأً، بينما أصبح المعدل الآن أقل بكثير.
ورغم أهمية هذا التحسن من حيث العدالة الرقمية، إلا أن المراقبين يعتبرون أن هذا “النجاح” لا يبرر التراجع عن مسؤوليات الرقابة الأساسية، خصوصًا في سياق منصات ذات جمهور بالمليارات، بينهم أطفال وفئات هشة أكثر عرضة للتأثر بالمضامين العنيفة أو المحبطة.
مخاوف على سلامة الأطفال والمراهقين
أفادت تقارير إعلامية بريطانية أن المنصات التابعة لـ”ميتا” باتت تُعرّض حياة الأطفال والمراهقين للخطر نتيجة انتشار مضامين غير لائقة أو محرضة. وقد تصاعدت هذه التحذيرات بعد إلغاء بعض القيود التي كانت تضمن حماية الفئات الحساسة من التعرض لمضامين تنتهك خصوصياتهم النفسية والاجتماعية.
وقد طالبت جهات حقوقية عالمية بإعادة النظر في سياسة “اليد الحرة” التي تنتهجها الشركة، معتبرة أن حرية التعبير لا تعني بالضرورة حرية نشر الأذى، ولا ينبغي أن تكون على حساب سلامة المجتمعات الرقمية، خاصة فئة الأطفال الذين باتوا عرضة للتنمر الإلكتروني والعنف الرقمي.
المرحلة القادمة: اختبار حقيقي لسياسات “ميتا“
يمثل الربع الثاني من عام 2025 اختبارًا حاسمًا للسياسات الجديدة، حيث سيكون على “ميتا” إما إثبات قدرتها على إدارة منصات آمنة وفعّالة من دون رقابة خارجية، أو مواجهة ضغوط أكبر من الجهات الرقابية والحكومية حول العالم. وتكمن الخطورة في أن ترك المحتوى دون رقابة صارمة قد يؤدي إلى تراجع ثقة المستخدمين وارتفاع معدلات الهجرة الرقمية نحو منصات بديلة أكثر التزامًا بالمعايير الأخلاقية.
وفي هذا السياق، دعت جهات إعلامية وخبراء تقنيون إلى ضرورة التوازن بين حرية التعبير والرقابة الهادفة، بحيث تضمن المنصات مساحات للنقاش دون أن تتحول إلى حاضنات للعنف أو ساحة مفتوحة للتنمر والخطابات المحرضة.
ما حدث في فيسبوك خلال الأشهر الماضية يعيد طرح السؤال المحوري: هل يمكن أن تُترك حرية التعبير دون شروط في الفضاء الرقمي؟ تجربتنا مع “ميتا” تشير إلى أن هذه الحرية لا بد أن تخضع لمعادلة دقيقة بين الحقوق والمسؤوليات. فالمنصة ليست مجرد فضاء افتراضي، بل واقع موازٍ ينعكس على الحياة اليومية للمليارات. ومن هنا، فإن أي تغيير في السياسات ينبغي أن يُبنى على دراسات دقيقة، ويُراقب بتأنٍّ، حتى لا يكون ثمنه سلامة المستخدمين، وخاصة الفئات الهشة منهم.