
في زمنٍ لم تعد فيه مائدة العشاء مجرد وقت للأكل، بل فرصة للحديث والتقارب وتجديد الروابط العائلية، ظهرت عادة جديدة تتسلل بصمت: جلوس أفراد الأسرة معًا، ولكن بعيون شاخصة نحو الشاشات الصغيرة.
الهاتف الذكي، هذا الجهاز الذي غيّر معالم حياتنا، دخل أيضًا إلى قاعات الطعام، لا ليُقرّب بين الناس، بل ليسرق منهم لحظات دفءٍ كان يُظنّ أنها لا تُشترى.
الهاتف الذكي شريك جديد في العائلة
لم يعد الهاتف الذكي مجرّد وسيلة اتصال أو مصدر معلومات، بل أصبح عنصرًا دائم الحضور في حياة كل فرد، صغيرًا كان أو كبيرًا. وأمام هذا الحضور القوي، تحوّلت مائدة العشاء من ساحة نقاشات عائلية، وتبادل قصص اليوم، إلى لحظة صمت ثقيل لا يقطعه إلا صوت الإشعارات أو النقر على الشاشة.
وقد أفادت دراسات اجتماعية أن أكثر من 60% من الأسر في العالم تعاني من انشغال أفرادها بالهواتف أثناء تناول الطعام، وهو مؤشر خطير يدل على تراجع قيمة اللقاءات العائلية الحقيقية.
الصمت الرقمي: حين يعلو السكون على الكلمات
غالبًا ما كان العشاء العائلي يمثل رمزًا للوحدة الأسرية، وفرصة يومية للتقارب، لكن هذا الطقس الجميل بدأ يندثر، بعدما استبدلت الكلمات بالرموز، والنقاشات بالنقرات.
فالأب يراجع رسائل العمل، والأم تتصفح وصفات الطهي، والأبناء يتبادلون مقاطع الفيديو مع أصدقائهم، بينما تظل الأطباق على الطاولة شاهدة على مشهد مألوف: أجساد مجتمعة، وعقول متفرّقة.
أثر هذا الصمت على العلاقات العائلية
هذا الانشغال المستمر بالشاشات يحمل في طياته آثارًا عميقة على الترابط الأسري. فعندما يغيب الحوار، تتضاءل فرص الفهم المتبادل، وتضعف أواصر الثقة، وينشأ شعور داخلي بالعزلة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.
ويحذّر علماء النفس من أن استمرار هذه الظاهرة قد يؤدي إلى تفكك العلاقات، وزيادة التوترات داخل البيت، خاصة بين الآباء والمراهقين، الذين يجدون في هواتفهم عزاءً عن حوارات غائبة.
الطفل.. أول المتضرّرين
الأطفال، ببراءتهم واحتياجاتهم النفسية، هم أول من يتأثر سلبًا بهذه الظاهرة. فحين يرى الطفل والديه منصرفين عنه خلال وجبات الطعام، يشعر بأنه غير مرئي، وأن اهتمامهما يتوجه إلى شيء آخر.
وقد أظهرت دراسات تربوية حديثة أن الأطفال الذين يفتقدون التفاعل العاطفي خلال أوقات الطعام يميلون إلى العدوانية أو الانغلاق، ويعانون من ضعف في مهارات التعبير والتواصل لاحقًا.
العشاء العائلي.. أكثر من وجبة
في ثقافات عديدة، تُعدّ مائدة الطعام رمزًا للتماسك الاجتماعي، وفرصة لتعليم القيم، والاستماع إلى مشكلات الأبناء، وتعليمهم أسلوب الحوار.
العشاء ليس مجرد وقت لتناول الطعام، بل هو لحظة إنسانية بالغة الأهمية، تساهم في بناء ذكريات دافئة، وتثبيت مشاعر الأمان والانتماء، التي تبقى راسخة في الذاكرة مدى الحياة.
فهل نعي خطورة أن تسرق منا التقنية هذه اللحظة النادرة؟
من المسؤول؟ وهل من سبيل للحل؟
يُلقى اللوم كثيرًا على الأبناء في استخدام الهواتف، لكن الواقع أن القدوة تبدأ من الوالدين. فإذا كان الأب أو الأم لا يستطيعان الابتعاد عن الهاتف خلال الوجبة، فكيف يُطلب من الأطفال فعل ذلك؟
المسؤولية هنا جماعية، تبدأ من قرار منزلي حازم، يتفق فيه أفراد الأسرة على جعل مائدة الطعام منطقة خالية من الشاشات.
بإمكان الأهل اعتماد وسائل مشجعة مثل تخصيص سلة لوضع الهواتف قبل الجلوس إلى المائدة، أو الاتفاق على لعبة حوارية خلال العشاء، بحيث يكون لكل فرد دور في الحديث، مع تشجيع الأطفال على رواية أحداث يومهم.
التوازن مطلوب وليس الحرمان
لا أحد يُنكر أهمية الهاتف الذكي اليوم، ولا يمكن المطالبة بالعودة إلى حياة خالية من التقنية. لكن التحدي يكمن في إيجاد التوازن بين استعمال الأجهزة، والحفاظ على الروابط العائلية.
تخصيص أوقات محددة لا يُسمح فيها باستخدام الهاتف، مثل وقت العشاء أو الخروج العائلي، يمكن أن يكون بداية بسيطة لكن فعالة في إعادة الدفء إلى العلاقات الأسرية.
نماذج إيجابية حول العالم
في بعض الدول، بدأت المدارس والمؤسسات الاجتماعية بحملات توعية تحث الأسر على استعادة لحظات التواصل الطبيعي. وفي اليابان، أُطلقت مبادرة “وجبة صامتة من الهاتف” تدعو العائلات إلى إطفاء هواتفهم ساعة واحدة يوميًا.
أما في السويد، فقد أصدرت بعض البلديات كتيّبات تُوزع على الآباء عند تسجيل أطفالهم في المدارس، توضح أهمية الحوار الأسري ودور مائدة الطعام في التنشئة النفسية.
استعد مائدتك، تستعد عائلتك
في عصر يزداد فيه الانشغال والانفصال، تبقى مائدة العشاء إحدى آخر القلاع التي يمكن أن تحمي التماسك العائلي.
استعادة هذه اللحظة اليومية لا تحتاج إلى تقنيات متقدمة، بل إلى نية صادقة، وقرار بسيط: أن نتفرغ لبعضنا قليلًا، أن نصغي بعيوننا قبل آذاننا، أن نتبادل القصص بدل الصور، والكلمات بدل الرموز.
فلنجعل من مائدة العشاء لحظة دفء، لا وقت صمت.