
في كل مرة تقترب فيها الأعياد الدينية أو المناسبات الدولية الكبرى، ترتفع مؤشرات الهجمات السيبرانية على المؤسسات والمستخدمين حول العالم.
الأمر لم يعد مجرد صدفة أو تكرار عارض، بل صار نمطا ثابتا تكشفه تقارير الأمن الرقمي بشكل دوري. سواء كان الحديث عن رأس السنة، أو الجمعة البيضاء، أو مباريات كأس العالم، أو حتى الأعياد الدينية كعيد الفطر، فإن الفضاء الرقمي يتحوّل إلى ساحة مشتعلة للهجمات الرقمية المتعددة الأهداف والوسائل.
انشغال الناس… فرصة للمتربصين
أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع وتيرة الهجمات السيبرانية في المناسبات الكبرى، يكمن في العامل النفسي والاجتماعي انشغال الناس، فالأعياد والمناسبات تترافق عادة مع سفر، تسوق إلكتروني، الاسترخاء بعيدا عن العمل، واستخدام مكثف للهواتف الذكية والمنصات الرقمية. هذا الانشغال الجماعي يُنتج فجوات أمنية، حيث يُهمل المستخدمون تحديث التطبيقات، أو يتسرعون في الرد على رسائل مشبوهة، أو يُجرون عمليات شراء دون التحقق من مصدر المواقع.
وفي هذه اللحظات تحديدًا، يستغل القراصنة هذه الثغرات البشرية للقيام بعمليات اختراق، أو سرقة بيانات، أو حتى تنفيذ هجمات كبرى تُشلّ أنظمة إلكترونية بأكملها، من بنوك ومطارات إلى أنظمة رعاية صحية ومراكز حكومية.
أهداف رمزية وسياسية في مناسبات عالمية
في المناسبات السياسية أو الرياضية الدولية، تصبح الهجمات السيبرانية أداة ضغط رمزية بامتياز. عندما يُقام مؤتمر عالمي أو قمة سياسية كبرى، ترى بعض المجموعات السيبرانية الفرصة سانحة لإثبات حضورها. وقد ترتبط تلك الهجمات بأهداف سياسية مثل معارضة سياسات دول معينة، أو إرسال رسائل احتجاج على قضايا دبلوماسية، أو حتى إشعال توتر بين بلدان متنافسة.
ففي بطولة كأس العالم الأخيرة، على سبيل المثال، تعرضت منصات بثّ وشبكات تلفزيونية لهجمات حرمت ملايين المشاهدين من المتابعة، كما شهدت البنية التحتية الرقمية لبعض المدن المستضيفة محاولات تخريب إلكتروني، تهدف ليس فقط إلى الإزعاج، بل إلى تقويض ثقة الرأي العام بقدرة الدولة على التنظيم.
تسوق الأعياد: كنز للقراصنة
تعد فترات التخفيضات الموسمية والأعياد بمثابة الموسم الذهبي للهجمات السيبرانية. فعمليات الشراء الكثيفة التي تجرى عبر الإنترنت، والزيارات المتزايدة لمواقع إلكترونية مختلفة، والضغط الكبير على أنظمة الدفع والبنوك، كلها عوامل تجعل البيئة الرقمية أكثر هشاشة وعُرضة للاختراق.
يستغل القراصنة هذه الأجواء لإطلاق هجمات “التصيّد الاحتيالي”، عبر إرسال عروض مغرية مزيفة، أو نسخ مقلدة لمواقع التسوّق الشهيرة، أو رسائل بريد إلكتروني تتضمن روابط خبيثة. وغالبًا ما ينجح هؤلاء بسبب استعجال الضحايا، وعدم الانتباه للتفاصيل الدقيقة مثل عنوان الموقع أو طريقة الكتابة.
نقص الكوادر أثناء العطل: دفاعات ضعيفة
عامل آخر لا يقل أهمية هو غياب جزء من فرق الأمن السيبراني خلال فترات الأعياد والعطل الرسمية. فكما يأخذ المستخدمون العطلة، كذلك تفعل فرق تقنية المعلومات في كثير من المؤسسات، مما يؤدي إلى تأخر في رصد الاختراقات أو احتوائها بسرعة. وغالبًا ما تهاجم المجموعات السيبرانية في أوقات ذروة الانشغال البشري، حيث تكون الاستجابة التقنية بطيئة، أو غير كافية لصدّ الهجوم قبل أن يحدث أضراره هذا الضعف المؤقت في الحماية الرقمية يدفع بالقراصنة إلى التخطيط مسبقًا للهجمات، وتحديد توقيتها في لحظات التراخي القصوى.
الرسائل الجماعية والمناسبات: انتشار أسرع للبرمجيات الخبيثة
المناسبات الاجتماعية تترافق مع تبادل واسع للرسائل والروابط عبر تطبيقات التواصل، مما يمنح البرمجيات الخبيثة مجالًا أكبر للانتشار السريع. فمستخدمون كثُر يرسلون التهاني والصور والعروض الترويجية دون التحقق من المصدر، مما يمكّن الفيروسات الرقمية من التسلل بهدوء عبر المحادثات الجماعية.
هذه البيئة المتساهلة تعتبر منجماً سهلاً لقراصنة المعلومات، الذين يعيدون إنتاج أدواتهم لتكون أقرب ما يكون إلى رسائل التهنئة أو المسابقات الرمضانية أو عروض نهاية السنة.
الهجوم للحصول على الفدية: توقيت يجبر الضحايا على الدفع
يعتمد بعض القراصنة استراتيجية اقتصادية دقيقة: مهاجمة الشركات والمؤسسات في أوقات الأعياد، وطلب فدية إلكترونية، مستغلين أن الشركات لا تملك رفاهية التوقف عن العمل أو خسارة بياناتها في تلك الفترة. ويعلم القراصنة أن الجهات المستهدفة ستكون مستعدة للدفع بسرعة لاستعادة نشاطها وخدمة زبائنها الذين يزداد ضغطهم خلال المناسبات.
وبالتالي، تصبح الفدية أداة ابتزاز ناجحة في فترات يكون فيها الوقت والسمعة والتشغيل عوامل لا يمكن التضحية بها.
حلول وقائية: كيف نستعد؟
أمام هذا الواقع، تبدو الوقاية الرقمية في مثل هذه الفترات ضرورة لا خيارًا. على المؤسسات أن تعيد النظر في سياسات العطل وتبقي جزء من فرق الأمن السيبراني في جاهزية. كما ينبغي التوعية المجتمعية باستخدام آمن للتقنية خلال المناسبات، والتأكيد على عدم مشاركة بيانات حساسة، أو فتح روابط غير موثوقة، أو إجراء معاملات مالية دون تحقق.
كما ينصح بتحديث البرامج باستمرار، واستخدام المصادقة الثنائية، وتجنّب تخزين كلمات السر في المتصفحات. أما على المستوى الرسمي، فالتخطيط المسبق والاستثمار في البنية التحتية الرقمية يعدّ خط الدفاع الأول في مواجهة موجات الهجمات الموسمية.
الاحتفال لا يعني إغلاق أعيننا عن المخاطر التي تترصدنا في الفضاء الرقمي. بل على العكس، فكل مناسبة كبرى تحمل في طياتها فرصًا للفرح كما تحمل مخاطر خفية في الخلفية، ومن واجبنا أن نكون مستعدين لها بنفس القدر.
فبينما نستعد للاحتفال، يتأهب القراصنة أيضًا لإطلاق موجاتهم، والفرق بيننا وبينهم هو: من يسبق الآخر إلى الضغط على الزر.