
لعدة سنوات، سيطر نموذج واحد على عالم الهواتف الذكية: شاشة مستطيلة مسطحة. لكن مع وصول السوق إلى مرحلة النضج والإشباع، بدأ الملل يسري بين المستخدمين والمصنعين على حد سواء.
من رحم هذا الركود، ولدت فكرة ثورية: هاتف يمكن طيه. لم تكن الرحلة سهلة، فقد شابتها عقبات تقنية هائلة وتكاليف باهظة. لكن اليوم، تحولت هذه الفكرة إلى واقع ملموس، وأصبح سوق الهواتف القابلة للطي ساحة لمعركة ضارية بين عمالقة التكنولوجيا، لا للسيطرة على السوق فحسب، بل لتحديد مسار الحوسبة الشخصية للسنوات القادمة.
ساحة المعركة: تقنيات الطي والثني
في قلب هذه المنافسة، تقف تقنية الشاشة القابلة للطي كأهم عنصر وأصعب تحدي. تتنافس الشركات على تطوير شاشات يمكنها تحمل عشرات الآلاف من عمليات الطي والفتح دون أن تظهر عليها آثار التلف. هناك منهجان رئيسيان: الطي إلى الداخل، حيث تحمي الشاشة نفسها، والطي إلى الخارج، الذي يلغي الحاجة لشاشة خارجية منفصلة ولكنه يعرض الشاشة الرئيسية للخدش والضرر.
بالتوازي مع الشاشة، يأتي تحدي “الوتيرة” أو المفصلة. هذه القطعة الميكانيكية الصغيرة هي عصب عمل الجهاز. تطوير وتيرة متينة وسلسة وغير مرئية تقريباً أصبح علماً قائماً بذاته. كما أن تصميم الهيكل الذي يضم هذه المكونات الدقيقة، مع التأكد من مقاومته للماء والغبار، يمثل تحدياً هندسياً ضخماً. كل شركة تسعى لامتلاك براءة اختراع في تصميم الوتيرة أو الشاشة، لخلق ميزة تنافسية يصعب على الآخرين تقليدها.
اللاعبون الرئيسيون: استراتيجيات متنوعة في سباق واحد
تتصدر ثلاث شركات الصدارة في هذه المعركة حالياً، لكل منها رؤيتها واستراتيجيتها الخاصة:
(01)- سامسونج: الرواد أصحاب الخبرة: تعتبر سامسونج الرائدة بلا منازع في هذا المجال، حيث أطلقت أولى أجهزتها القابلة للطي قبل سنوات. اعتمدت استراتيجية “السيطرة على السلسلة الإنتاجية”، حيث تطور وتصنع العديد من المكونات الرئيسية بنفسها، خاصة الشاشات. هذا يمنحها سيطرة أكبر على الجودة والتكلفة. كما أنها تعلمت من أخطائها الأولى، لتحسن من متانة أجهزتها مع كل جيل جديد.
(02)- هواوي: الرفاهية والابتكار المميز: تتبع هواوي مساراً مختلفاً، بتركيزها على الهواتف القابلة للطي ذات الشاشة العمودية، والتي تشبه الهواتف التقليدية عند طيها ولكنها تتحول إلى جهاز ذو شاشة كبيرة عند فتحها. ركزت هواوي على التصميم الفاخر والكاميرات عالية الجودة، مستهدفة شريحة المستهلكين الباحثين عن الابتكار والتميز.
(03)- شياومي وأوبو: القادمون الجدد بقوة: دخلت هاتان الشركتان المعركة متأخرتين ولكن بقوة، محاولتين تقديم قيمة أفضل بسعر أقل نسبياً. تحاولان كسر احتكار الشركات الكبرى من خلال تقديم تقنيات مشابهة بأسعار تنافسية، مما يوسع قاعدة المستهلكين المحتملين لهذه الفئة من الهواتف.
تحديات العقبات: متانة وسعر وقبول جماهيري
رغم الحماس الإعلامي، لا تزال الهواتف القابلة للطي تواجه ثلاثة تحديات كبرى:
(01)- المتانة والثقة: يبقى هاجس المتانة هو العائق الأكبر أمام الكثيرين. هل يتحمل الجهاز السقوط؟ كم مرة يمكن طيه قبل أن تبدأ علامات التلف بالظهور؟ هذه أسئلة لا تزال عالقة في أذهان المستخدمين.
(02)- حاجز السعر المرتفع: تظل أسعار هذه الهواتف باهظة جداً مقارنة بنظيراتها التقليدية. هذا يحصرها في نطاق المستخدمين المتقدمين والمتحمسين للتكنولوجيا أو أصحاب الدخل المرتفع.
(03)- تطبيقات وبرامج مصممة للطي: وجود الجهاز وحده لا يكفي. يحتاج المطورون إلى تعديل التطبيقات لتعمل بسلاسة على الشاشات القابلة للطي والمتعددة، مما يضمن تجربة مستخدم سلسة.
مستقبل المعركة: من الطي إلى الثني والتوسع
لا تتوقف حدود الابتكار عند الطي فقط. المستقبل يحمل توجهات أوسع:
(01)- الهواتف “القابلة للثني”: حيث تصبح الشاشة مرنة بحيث يمكن لفها أو ثنيها جزئياً لأداء وظائف مختلفة، مما يفتح آفاقاً جديدة في التصميم.
(02)- أجهزة قابلة للطي متعددة الأحجام: قد نرى أجهزة تجمع بين شاشتين قابلتين للطي، أو أجهزة لوحية قابلة للطي إلى هواتف.
(03)- الدمج مع تقنيات المستقبل: يمكن أن تصبح الهواتف القابلة للطي المنصة المثالية لتقنيات مثل الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي، حيث توفر مساحة شاشة أكبر عند الحاجة.
أكثر من مجرد هاتف
معركة الهواتف القابلة للطي هي أكثر من مجرد سباق لبيع وحدات. إنها معركة على الريادة التقنية، واختبار للقدرات الهندسية، واستثمار في مستقبل البشري مع الأجهزة. المنتصر في هذه المعركة لن يكون بالضرورة من يبيع أكبر عدد من الوحدات اليوم، بل من يستطيع تطوير التقنية الأكثر متانة وابتكاراً، ويقدم تجربة مستخدم مقنعة، ويخفض التكاليف بما يكفي لجعل هذه التقنية في متناول الجميع. هذه المعركة تذكرنا بأن التكنولوجيا لا تسير في خط مستقيم، بل تنحني وتطوي لتفتح لنا أبواباً جديدة كنا نحسبها مستحيلة.
بن عبد الله ياقوت زهرة القدس