تكنولوجيا

المرونة السيبرانية.. حاجة ملحة في العصر الرقمي

تشهد الساحة الرقمية في السنوات الأخيرة تحولات متسارعة، جعلت من المرونة السيبرانية أحد أهم المفاهيم المطروحة للنقاش، إذ لم يعد الحديث عن حماية الأنظمة أو صيانة الأجهزة الرقمية وحده كافيا، بل أصبح المطلوب قدرة شاملة على الصمود أمام الهجمات والتعافي السريع منها، وهو ما يعكس وعيا متزايدا بأن العالم يعيش في فضاء مترابط لا يمكن فصله عن المخاطر المتزايدة المرتبطة بالاختراقات والقرصنة والتهديدات غير المتوقعة.


 

تقوم المرونة السيبرانية على مبدأ أساسي يتمثل في أن أي نظام معلوماتي معرض للاختراق مهما بلغت قوة التحصين، لكن الفرق يكمن في كيفية التعامل مع الهجوم وما إذا كان النظام قادرا على الاستمرار في أداء وظائفه الحيوية رغم وقوع الخلل، لذلك لا ينظر إلى المرونة كبديل عن الحماية وإنما كمرحلة موازية لها تكملها وتدعمها، فالوقاية قد تقلل من احتمالية الاختراق بينما المرونة تحدد سرعة التعافي وتقلل من الخسائر الناجمة عنه.

لقد دفعت الهجمات الرقمية المتكررة على المؤسسات الكبرى والصغرى على حد سواء، إلى التفكير بجدية في وضع استراتيجيات جديدة، فبينما كان التركيز في السابق على بناء جدران صد إلكترونية صلبة، أصبح الاهتمام حاليا منصبا على إعداد خطط بديلة وإجراءات استجابة فعالة تضمن استمرار الخدمات دون انقطاع، وهذا التحول يعكس إدراكا متناميا بأن البيئة الرقمية بطبيعتها مليئة بالثغرات وأن النجاح يكمن في الاستعداد المسبق، لا في الاكتفاء بآليات الحماية التقليدية.

 

الأبعاد الاستراتيجية للمرونة السيبرانية

تتجاوز المرونة السيبرانية حدودها التقنية، لتشمل بعدا استراتيجيا يرتبط بأمن الدول واستقرار المؤسسات، إذ إن أي خلل في البنية الرقمية قد يؤدي إلى شلل في قطاعات أساسية مثل الصحة أو النقل أو الطاقة أو التعليم، ومن هنا فإن وضع خطط دقيقة للتعامل مع الأزمات الرقمية بات جزء من الأمن القومي للمجتمعات الحديثة، خاصة أن بعض الهجمات الإلكترونية لم تعد تستهدف الربح المادي فقط، بل تسعى إلى إحداث اضطرابات واسعة النطاق.

كما أن المؤسسات الاقتصادية تدرك أن سمعتها على المحك عند وقوع أي خرق للبيانات، فالمستخدم أو الزبون لم يعد يقيم الخدمات على أساس جودتها التقنية فقط، بل ينظر أيضا إلى مدى قدرتها على حماية بياناته الشخصية والحساسة، وبالتالي فإن الاستثمار في المرونة السيبرانية أصبح وسيلة للحفاظ على الثقة العامة وضمان استمرارية العلاقات التجارية، خصوصا أن الفشل في الاستجابة السريعة لأي حادث رقمي قد يؤدي إلى خسائر طويلة الأمد تتجاوز الجانب المادي لتصل إلى انهيار السمعة.

في هذا السياق، تعتمد كثير من المؤسسات على بناء خطط اختبار متكررة تحاكي وقوع هجوم افتراضي، حيث يتم تقييم جاهزية الفرق العاملة ومدى فاعلية الإجراءات المتبعة في إعادة تشغيل الأنظمة، وتكشف هذه التدريبات الدورية عن نقاط الضعف وتتيح فرصة لتصحيحها قبل وقوع الأزمة الحقيقية، وهو ما يبرهن على أن المرونة السيبرانية ليست مجرد شعارات بل هي ممارسة عملية تحتاج إلى استمرارية ومراجعة متواصلة.

 

التحديات المرافقة لبناء المرونة السيبرانية

رغم إدراك الأهمية البالغة للمرونة السيبرانية، إلا أن تطبيقها على أرض الواقع يواجه مجموعة من التحديات، أبرزها نقص الكفاءات المتخصصة في الأمن الرقمي، فعدد الخبراء القادرين على تصميم أنظمة مرنة والاستجابة السريعة للهجمات ما زال محدودا مقارنة بتزايد حجم التهديدات، وهذا النقص يفرض ضغوطا كبيرة على المؤسسات التي تجد نفسها مضطرة إلى البحث عن حلول بديلة أو الاعتماد على شركاء خارجيين.

إضافة إلى ذلك، فإن التكلفة المالية العالية لبناء أنظمة مرنة تمثل عائقا أمام بعض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث يتطلب الأمر استثمارات في بنية تحتية متطورة وأدوات مراقبة ذكية وخطط تدريب متقدمة، ورغم أن العائد طويل الأمد قد يكون أكبر من حجم الإنفاق، إلا أن الضغوط الاقتصادية تجعل بعض المؤسسات تتردد في اتخاذ هذه الخطوات، مما يزيد من هشاشتها أمام الهجمات الرقمية.

ومن التحديات الأخرى كذلك تعقيد البيئة الرقمية ذاتها، إذ إن تزايد الاعتماد على الحوسبة السحابية وتكامل الأنظمة بين مختلف القطاعات يجعل من الصعب حصر الثغرات أو توقع مصدر الخطر، فالتهديد قد يأتي من سلسلة التوريد أو من جهاز غير محمي أو حتى من خطأ بشري بسيط، وهو ما يعني أن بناء المرونة السيبرانية يتطلب نظرة شمولية لا تقتصر على الجانب التقني، بل تشمل أيضا الوعي البشري والإجراءات التنظيمية.

 

نحو مستقبل أكثر أمانا ومرونة

على الرغم من هذه التحديات، إلا أن الطريق نحو مرونة سيبرانية فعالة لا يبدو مستحيلا، بل يتطلب مزيجا من الإرادة السياسية والاستثمارات المؤسسية والتعاون الدولي، إذ إن التهديدات الرقمية لا تعترف بالحدود الجغرافية ولا يمكن مواجهتها بمنطق الانعزال، بل تحتاج إلى تبادل الخبرات والمعلومات بين مختلف الفاعلين سواء كانوا حكومات أو شركات أو مراكز بحثية.

إن المستقبل الرقمي يتطلب من الأجيال الصاعدة فهما معمقا لمخاطر الفضاء السيبراني وأهمية الاستعداد لها، وهو ما يستدعي إدماج ثقافة الأمن الرقمي والمرونة السيبرانية في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة، حتى يصبح التعامل مع التكنولوجيا مقترنا دائما بالوعي بالمسؤولية والقدرة على مواجهة الأزمات، فالمعرفة والمهارة هما خط الدفاع الأول قبل أي نظام تقني.

يمكن القول إن المرونة السيبرانية لم تعد خيارا ثانويا أو رفاهية نظرية بل أصبحت ضرورة ملحة تفرضها طبيعة العصر الرقمي، وكل مؤسسة أو مجتمع يتأخر في تبني هذا النهج يجد نفسه معرضا لخسائر لا يمكن تعويضها بسهولة، أما من يستثمر في المرونة، فسيكون قادرا على مواجهة العواصف الرقمية بثبات وتحويل التحديات إلى فرص للنمو والابتكار.

بن عبد الله ياقوت زهرة القدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى