
دراسة من إعداد: الدكتور/علي الكحلان
(الـجـزء الأول)
منذ عام 2018، شرعت الجزائر في عملية تحول كبيرة في قطاعي التجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية، مما يشكل مرحلة حاسمة نحو تحديث اقتصادها، بدعم من الإصلاحات التشريعية والتقدم التكنولوجي، تهدف هذه الديناميكية إلى تسهيل ظهور الخدمات الرقمية. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التقدمات، لا تزال نسبة اعتماد المدفوعات الإلكترونية ضعيفة جدًا، إذ تمثل بالكاد 1.3 بالمائة من إجمالي المعاملات. هذا الرقم يسلط الضوء على العقبات الهيكلية والثقافية التي لا تزال تعرقل تسريع الانتقال الرقمي في البلاد.
تميز هيكلان رئيسيان باعتبارهما محركين لهذا النظام البيئي المزدهر: المجموعة الجزائرية للاقتصاد النقدي وشركة أتمتة المعاملات المصرفية والنقدية (SATIM). تلعب هاتان الكيانات دورًا محوريًا في تنفيذ حلول الدفع الإلكتروني وتشكّلان الأساس للبنية التحتية النقدية الوطنية.
القوانين والإطار التنظيمي: تطور مستمر
تطور الإطار التشريعي الجزائري من خلال قانونين مهمين، قانون رقم 18-05 المؤرخ في 10 ماي 2018 حول التجارة الإلكترونية شكّل أول تنظيم القطاع، حيث وضع قواعد المعاملات عبر الإنترنت وحمى المستهلكين، مع تحديد مسؤوليات التجار. القانون النقدي والمصرفي رقم 23-09 الصادر في 21 جوان 2023 يعد بدعم ازدهار التكنولوجيا المالية من خلال تعزيز الابتكار في هذا المجال وتسريع اعتماد المدفوعات الإلكترونية. في هذا السياق، تعمل بعض شركات التكنولوجيا المالية الموجودة ضمن أنظمة السماح أو عبر شراكات مع البنوك. وعلى الرغم من حدود نشاطها، فإنها تظهر إمكانيات رواد الأعمال الجزائريين في الابتكار في مجالات مثل المدفوعات عبر الهاتف المحمول، وتحويل الأموال، والتمويل الرقمي الصغير.
عقبات أمام اعتماد الدفع الإلكتروني
على الرغم من جهود SATIM والمجموعة الجزائرية للاقتصاد النقدي، يبقى تأثير الدفع الإلكتروني محدودًا. في عام 2023، تركزت المعاملات بشكل رئيسي على تعبئة الهاتف ودفع الفواتير (الاتصالات، النقل، التأمينات، سونلغاز، SEAAL)، بينما ما زالت المدفوعات النقدية هي المسيطرة في قطاع التجزئة. ثقة المستهلكين في أمان المعاملات ما زالت هشة، لا سيما فيما يتعلق بحماية البيانات الشخصية. لم يكن للسلطة الوطنية لحماية البيانات (ANPDP)، التي تم إنشاؤها حديثًا، تأثير كبير في تبديد هذه المخاوف بعد، لا تزال البنية التحتية للمدفوعات الإلكترونية غير كافية في الجزائر. على الرغم من زيادة بنسبة 20 بالمائة في عام 2023 التي سمحت بنشر أكثر من 58.000 جهاز دفع إلكتروني (TPE)، فإن اعتمادها من قبل التجار لا يزال محدودًا. الكثير من التجار لا يستخدمونها بنشاط، مما يعيق انتشار الدفع الرقمي. ومع ذلك، فإن الإمكانات هائلة: يمكن للسوق الجزائري استيعاب ما بين 500,000 إلى 600,000 تاجر إضافي، مما يبرز حجم الفرص غير المستغلة في هذا المجال.
تأثير جائحة كوفيد-19
قدمت جائحة كوفيد-19 فرصة لتسريع اعتماد الدفع الإلكتروني في الجزائر، مما أظهر إمكانات للمعاملات الآمنة مع تقليل المخاطر الصحية. خلال هذه الفترة، شهد استخدام المدفوعات الإلكترونية انتعاشًا، مما دفع المستهلكين والتجار على حد سواء إلى اللجوء إلى هذه التقنيات للحد من مخاطر العدوى. ومع ذلك، بمجرد تراجع الأزمة الصحية، تلاشى هذا الزخم بسرعة. يُظهر هذا التراجع بوضوح أن الدفع الإلكتروني لم يحافظ على زخمه الأولي، وأن دعمًا أكثر تنظيمًا ضروري لضمان استدامة وانتشار هذه الممارسات في البلاد.
نمو المدفوعات الإلكترونية: الفرص والتحديات
على الرغم من العقبات المستمرة، تم تحقيق تقدم كبير في مجال المدفوعات الإلكترونية في الجزائر، تكشف بيانات بنك الجزائر عن زيادة بنسبة 58.9٪ في المعاملات بواسطة البطاقات البنكية في عام 2023، حيث وصلت إلى 46.4 مليون عملية بقيمة إجمالية قدرها 592.8 مليار دينار. في الوقت نفسه، شهد عدد التجار عبر الإنترنت المعتمدين زيادة ملحوظة بنسبة 75.3 بالمائة، من 291 إلى 510 بين عامي 2022 و2023.
يبرز هذا التوجه الإمكانات الكبيرة للتجارة الإلكترونية في الجزائر. ومع ذلك، لا يزال اعتماد المدفوعات الإلكترونية متركزًا بشكل مفرط على قطاعات محددة، مثل خدمات الفوترة والمشتريات المحدودة، لضمان أن يكون لهذه التطورات تأثير دائم وحقيقي، يجب أن يتم توسيع نطاق اعتماد المدفوعات الإلكترونية على مستوى الاقتصاد الجزائري بأكمله. إن تنويع الاستخدامات والتوسع إلى قطاعات أخرى تعد خطوات حاسمة لتعظيم فوائد هذا التحول الرقمي.
المدفوعات عبر الهاتف المحمول: إمكانات غير مستغلة
في عام 2023، تم تسجيل 39 مليون معاملة عبر الهاتف المحمول، مما يمثل حجمًا يبلغ 28 مليار دينار، بفضل حلول مثل BaridiMob. ومع ذلك، يستخدم بالكاد 15 بالمائة من الجزائريين هذه الخدمات بانتظام، وهو رقم بعيد جدًا عن النسب المسجلة في الهند (55 بالمائة) أو جنوب إفريقيا (50 بالمائة). على الرغم من وجود بنية تحتية تكنولوجية قوية، حيث 91.5 بالمائة من السكان متصلون عبر الهواتف الذكية ويستفيدون من شبكات 3G/4G، إلا أن هذه الفرصة لا تزال غير مستغلة بشكل كبير. يرجع هذا التأخر إلى حد كبير إلى انعدام الثقة الثقافية المستمر تجاه المدفوعات الإلكترونية، وفرض ضرائب تُعتبر مُرهقة للتجار، بالإضافة إلى الشمول المالي المحدود. في الواقع، لا يحصل سوى 44 بالمائة من البالغين على الخدمات المصرفية، وهو عامل يعوق بشكل كبير اعتماد المدفوعات عبر الهاتف المحمول على نطاق واسع في البلاد.
تنويع وسائل الدفع والشمول المالي
في الجزائر، على الرغم من أن 18.8 مليون شخص يمتلكون بطاقات بنكية، فإن استخدامهم يقتصر بشكل أساسي على سحب الأموال النقدية بدلا من المدفوعات الإلكترونية، خصوصًا في المناطق الحضرية. هذه الظاهرة، بدلاً من تعزيز الشمول المالي، تعيقه فعليًا. في المناطق الريفية، يكون اعتماد البطاقات البنكية أكثر انخفاضًا بسبب محدودية الوصول إلى الخدمات المصرفية. العديد من الأشخاص لا يمتلكون حتى حسابات مصرفية، مما يمنعهم من الوصول إلى الخدمات المالية الرقمية.
هذه الحالة تقلل بشكل كبير من تأثير البطاقات البنكية على الشمول المالي في البلاد. لتحسين الوصول إلى الخدمات المالية، يصبح من الضروري تنويع وسائل الدفع من خلال الترويج لاستخدام المحافظ الإلكترونية والمدفوعات عبر الهاتف المحمول، التي تثبت أنها أكثر ملاءمة لاحتياجات السكان البعيدين عن الخدمات المصرفية التقليدية. يظهر مثال كينيا مع M-Pesa بوضوح أن المدفوعات عبر الهاتف المحمول يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في الشمول المالي، من خلال جعل هذه الخدمات متاحة لشريحة أوسع من السكان، بما في ذلك غير المصرفيين. في الجزائر، يمكن لمبادرات مثل BaridiMob أن تساهم أيضًا في دمقرطة المدفوعات الرقمية، مما يسمح لعدد أكبر من المواطنين بالاستفادة من الخدمات المالية التي تتناسب مع احتياجاتهم.
تشجيع استخدام المدفوعات الرقمية بدلا من سحب الأموال النقدية
يظل تركيب أجهزة الصراف الآلي (DAB/GAB) ضروريًا لتحسين الوصول إلى السيولة النقدية، خاصة في المناطق النائية. ومع ذلك، يجب ألا يعزز ذلك من عادة المواطنين في سحب جميع أموالهم لتفضيل الدفع النقدي. سيعوق ذلك الشمول المالي من خلال وسائل الدفع الإلكترونية.
لذلك، من المهم تشجيع المستخدمين على استخدام بطاقاتهم البنكية مباشرة على أجهزة الدفع (TPE) لتسديد مشترياتهم، بدلًا من الاقتصار على عمليات السحب. بالإضافة إلى ذلك، يوفر الافتراضية للبطاقات واستخدام الهواتف الذكية للدفع بدائل أكثر وصولًا واقتصادًا مقارنة بأجهزة TPE، التي يثقل استيرادها على العملات الأجنبية للبلاد. من خلال اعتماد هذه الحلول، لن تقتصر الفائدة على خفض تكاليف استيراد أجهزة TPE فحسب، بل ستسهم أيضًا في تحديث نظام الدفع الوطني.
(يــتــبــع)