اليوم أمامنا ذاكرة رجال، يحجم العقل عن التفكير في أمرهم، وتخشع زمرة الخاشعين عبادة وعرفانا، فما ارتدوا وما نكثوا ولكن ساروا في مواكب الحق الإ وفازوا بفوز عظيم. كوكبة زينت صدر الثورة بقيم الإيثار وحب الجزائر، فنقف اليوم في ذكرى رجل أبرأ نفسه بالحق قربانا للرحمن في سبيل الوطن، هو “محمد مصطفاي بن عبد القادر” و”يسعد يمينة” المولود بتاريخ 17 جانفي سنة 1933 بدوار أولاد سيدي عبد القادر بن يسعد.
تربى في أسرة طاهرة النبل والشرف، قدمت 45 شهيدا، منها والده الشهيد “مصطفاي عبد القادر” وشقيقه الشهيد “مصطفاي منور وهو من الشباب الذين عاشوا لدينهم ووطنهم، وهم من وصفهم الله في كتابه العزيز (أنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى)، تغذى “سي محمد” رحمه الله بلبان القرآن والسنة المطهرة، المجاهد من حملة كتاب الله وقد حمله والده صغيرا بإحدى كتاتيب المنطقة، لينتقل إلى مدينة البرج ليحاط به زمرة من الشيوخ ومن أهمهم الشيخ “سي أحمد بوجلال” والشيخ “بلعروسي الحاج قدور”، أغدقوا عليه بعلمهم من العلوم الدينية والفقه واللغة العربية، المجاهد “سي محمد” النبع المتدفق بالحكمة والحنكة والتجربة الطويلة والخبرة الفائقة، والوفاء للرفاق والإخلاص للوطن، بشمائل نبيلة وخِصال حميدة، جعلت منه رجلاً عظيماً عظمة المهام التي أداها على أحسن ما تؤدى المهام فكان عزيزاً، طالـما استأنسوا بآرائه واسترشدوا ونهلوا من أفكاره، وأدرك أن العزة الإيمانية لا تعرف هزيمة ، لأنها لا تعرف إلا نصرا أو شهادة.
بهذه المنطقة التي كانت قلعة من قلاع الجهاد، ملتقى المجاهدين والثوار، الذين كان “سي محمد” واحدا منهم يدعو إلى محاربة الاستدمار ومع اشتداد لهيب الثورة التحريرية المباركة، أدرك المجاهد بحسه الوطني أن مكانه الطبيعي ينبغي أن يكون إلى جانب شعبه، المكافح ضد فرنسا الاستعمارية، قبل 1958 كان مسبل مكلف بالاتصالات وتوصيل الرسائل للمجاهدين في الميدان، كان أيضا يقوم بتأمين الطريق للمجاهدين قبل تنقلهم ومرافقتهم وإرشادهم إلى الطريق.
الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني
في بداية سنة 1958، قرر الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني باسم ثوري يدعى “بكباشي” بمعية ثلة من رفاقه وسنه لا يتجاوز 25 سنة، فكلف بعدة مهام عسكرية، بالمنطقة السادسة من نطاق الولاية التاريخية الخامسة تحت مسؤولية “بن يخلف” و”زين عابدين”، وبعد مسيرة حافلة بالبطولات، وهو يخوض عدة معارك باستبسال واسترسال، ألقي عليه القبض من طرف السلطات الفرنسية في شهر ماي سنة 1959، ليتجرع مرارة التعذيب والاستنطاق في غياهب سجن “شابو”، سجن “خلوية”، سجن “تمكسي”، سجن “هاشم”، سجن “معسكر”، ثم سجن “سيدي الشحمي” بوهران.
وبعد الإفراج عنه في شهر أفريل سنة 1961، عاد إلى ركب رفاقه، ليٌكلف من طرف جبهة التحرير الوطني، وبأمر من “عبد الغاني زعطوط” تولى منصب جمع الاشتراكات والتمويل، ليواصل مسيرته الجهادية إلى غاية وقف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962. بعد بزوغ فجر الاستقلال، ظل المجاهد الفقيد وفي لقيم ومبادئ ثورة نوفمبر 1954 الأغر، مساهما في خدمة وطنه ورقيه، بانضمامه إلى قطاع الغابات، فأستهلها كحارس للغابات بهاشم من سنة 1963 إلى سنة 1964، ثم بمحافظة ولاية مستغانم من سنة 1964 إلى غاية سنة 1975، ليعود إلى حضن معسكر كرئيس مقاطعة الغابات بهاشم ووادي الأبطال، ليحال على التقاعد سنة 1986، ليواصل النضال بعد نيل ثقة رفقاء السلاح كمسؤول التنظيم بمكتب قسمة المجاهدين بتغنيف، وعضو بالمجلس الولائي لمنظمة المجاهدين.
انتقال روح المجاهد بجوار ربها في 21 جانفي 2017
وشاء القدر لتنتقل روح المجاهد بجوار ربها في 21 جانفي 2017، فإن فقدنا فيك كل هذه الصفات فقد فقدت الجزائر واحد من خيرة وأوفى رجالها، اتسم بحصافة الرأي وعمق التفكير ونفاذ البصيرة، وبهذه الفضائل سَتظل قدوة للأجيال وعبرة يتحصنون بها في الحفاظ على العهد إلى الأبد. فَرحلُت وديعتك من دنياها إلى آخرتها راضية مرضية، تزفها الدعوات إلى ملكوت السماوات، من جنة العدن والرضوان إلى مقام الكريم بين الأبرار والأخيار، ويُجل مثواك ويسكنك بيتا عالياً في جنات الخالد والنعيم.
سلطاني مختار