
تعتبر “سليمة عيدوني” من المثقفات اللواتي لهن قناعة راسخة، بأن الثقافة هي حلم وطن، تحقيقه يحتاج إلى نضال وكفاح مستمر، ينعشه وينميه النقاش المختلف بين أفراد مجتمعه.
ولفهم رؤيتها لواقع الثقافة وما يعيشه المجتمع والمثقف لاسيما المرأة، اقتربت منها يومية “البديل”، وحاولت استخراج ما يجول في عمق تفكيرها وهي تدير جلسات الحوار والنقاش المفتوح الذي دأب فرع وهران لـ “بيت الشعر”، التي يرأسها المؤلف “رفيق حلول”، بصفتها الأمينة العامة على تنظيمها، للقاء الكتاب، الشعراء، المفكرين والمبدعين المثقفين، خاصة وأنها لا تتواني في طرح أسئلة عميقة ومباشرة في محاولة منها اكتشاف سبل جديدة النهوض بهذا القطاع الذي يعتبر روح المجتمع وهويته.
من هي”سليمة عيدوني”؟
“سليمه عيدوني”، امرأة جزائرية خريجة الجامعة الجزائرية في 1991/1992، من قسم اللغة الفرنسية، بكلية اللغات الأجنبية بجامعة السانيا.
اشتعلت أكثر من 32 سنة في ميدان التعليم، جابت خلالها مختلف ثانويات ولاية وهران، لكن شغفها بالتعرف على مناطق الجزائر واكتشاف ثقافتها، دفعها للتوجه إلى الجنوب، لتختار ولاية “أدرار”، أين قضت 10 سنوات، كانت كفيلة بأن تعشق الثقافة الجزائرية وتخلق لديها رغبة في الغوص في عالم هذه الأفكار المتلاقحة والمتناقضة، فقد سمحت لها هذه التجربة التربوية بالجنوب الجزائري باكتساب علاقات شخصية، ما زالت تحافظ عليها إلى حد الساعة.
لقد نجحت السيدة “سليمة عيدوني” في تجسيد رغبتها وتنفيذ طموحها رغم محافظة العائلة ووجودها ضمن 9 إخوة، فهي السادسة في ترتيب الأولاد (4 بنات و5 أولاد)، فقد كان الوالد سندا قويا لها جعلها تحقق رغباتها برغم الصعوبات. ولأنها عاشقة للفكر وحرية التعبير، فقد كانت تبحث دوما عن الشخص الذي يتوفر على موسوعة من الأفكار،الثقافات والمعارف، وقد وجدتها في السيد “الهواري معمر”.
بعد 32 سنة من التعليم في الثانوية كأستاذه للغة الفرنسية، وحضورها لمختلف النشاطات الثقافية واحتكاكها الدائم بالأسرة الثقافية، اكتسبت السيدة “عيدوني” شغفا للاكتشاف، والبحث المتواصل بين دفات الكتب والأفكار الثقافية، وقد اتجهت في المدة الأخيرة إلى الكتابة الانجلوساكسونية، وقد أثر فيها الكاتب “ماركيز” بمؤلفه “الحب في زمن الكوليرا”، بينما هناك الكثير من المؤلفين الجزائريين الذين تقرأ لهم، على غرار (طاهر جاووت، غزلان تواتيوالحبيب السائح كورتي محمد) وغيرهم كثيرين، إلى جانب عشقها للشعر بكل بحوره، تعتبر “سليمه عيدوني” عضوا في المقهى الثقافي “وهران الجميلة” لما يزيد عن السنتين، كما أنها هي الأمينة العامة لبيت الشعر فرع وهران الذي أنشئ منذ 6 أشهر، إلا أنه أصبح ذائع الصيت نظير النشاطات الثقافية المكثفة التي ينظمها باستمرار، والتي تعمل على الجمع ولقاء المثقفين والباحثين عن شعلة الثقافة بين الأدباء والشعراء والكتاب والباحثين في مجال الثقافة.
المرأة بين الماضي والحاضر
ترى “سليمة عيدوني”، أن المرأة تملك من المكتسبات ما يجعلها تبدو وأنها تملك كل الحرية، فهي تقرأ، تخرج، تعمل، تنشط… إلخ. لكنها تبقى مكتسبات مادية، أما عن حرية المرأة، فهذا المصطلح أي الحرية، فتراه السيدة “سليمه” على أنه لا توجد هناك حرية، بل هناك مسؤولية فمتى عرفت المرأة حريتها، تمكنت من معرفة حدودها، كما أنها تكتشف الممنوعات أو الحواجز أو الضوابط التي وضعها لها المجتمع، فكلما كانت المرأة واعية وفاهمة ومتفهمة لمسؤوليتها، كلما بذلت جهدها لكسر ومحاربة تلك الحواجز، وكلما نقص وعيها، كلما بقيت بذلك السجن الموضوع لها.
صراع الكاتب المحلي والبحث عن العالمية
ترى المثقفة “سليمة عيدوني”، أنها من مناصري الكتابات المحلية بأجنحة عالمية، لأنها لا تؤمن بالأدب الذي يحمل عَلم بلد، بل تؤمن بالأدب الذي يحمل عَلم الجمال، لأن الأدب حسبها ليس حزبا ولا إيديولوجيا، بل هو جماليات إنسانية تسافر عبر الزمن لصدق الإحساس على مر التاريخ، فهو يتحدث عن الإنسان. والأدب هو طريقة طرح قصة وليست قصة مجردة، فهناك طريقة لبنائها، مثلما هو بناء البيت يحتاج إلى مواد أساسية كأعمدة، سقف، جدران و طلاء… وكل شخص يبني البيت حسب رؤيته الخاصة وذوقه، كذلك بالنسبة للأدب، فهناك عناصر أساسية أهمها الثقافة، القيم الشخصية، والذوق يستغلها المؤلف حسب إحساسه ورؤيته الخاصة.
تسطيح أو تتفيه الإنتاج الفني
أمام التراجع الفني الواضح بالساحة الثقافية الجزائرية، فإن المثقفة “سليمة عيدوني”،ترى أنه لا يمكن تحميل الفنان والمبدع وحده المسؤولية، فهو يعتبر حلقة من سلسلة.
وتضيف في حديثها ليوميه “البديل”، أن الجزائر عبر التاريخ كان مجتمعها يؤمن برسالة، كما كانت هناك مؤسسات تؤمن بهذه الرسالة، لأنه كان يوجد مشروع والإنسان الجزائري وقتها كان له إيمان بقضية الاستقلال، كما كانت شروط العيش ملائمة، ولم يكن هذا الصخب المعلوماتي والإعلامي الهائل، أما اليوم فالفنان غارق في ذاته، كما أن ذلك المشروع انجلى ورؤية الدولة انزاحت والاستقلال أصبح بعيدا، فتبخرت الرسالة وقلّ الإيمان بها أمام الضجيج، الذي أصبح يغطي التواصل الاجتماعي.
في زمن السرعة حسب “عيدوني”، لم يبق لنا وقت للمضغ والبلع والفرز، فلا نكاد ننتهي حتى يأتي الجديد ويقضي على ما قبله، ناهيك عما يقع في العالم من تحولات وحروب وصراعات واضطرابات، فنحن نعيش في عصر الماديات والمعرفة عادت علينا بالسلب -حسبها-، لأننا عوض استغلال التكنولوجيا لفائدتنا جميعا أو لفائدة العامة، تحولنا إلى الغلق على أنفسنا وخلق عالم خاص لكل واحد منا،فلم يبقى لنا وقت للاستمتاع والاستماع وقد ضاع الحلم في الضجيج. في وقت ترى نفسها مسكونة بالفن والوطن، وأننا اليوم بحاجة إلى إعادة غرس هذا الحلم من جديد وإنباته ليظهر عبر توفير رؤية ومشروع.
التكنولوجيا جعلتنا تائهين
وفي طغيان التكنولوجيا، فقد أوضحت “سليمة عيدوني”، أن التكنولوجيا هي إنتاج الفرد، وكلما يكون إنتاج جديد يقابله تخوف من الإنسان، فقديما خاف الإنسان من تأثير التلفزيون، ثم أصبح يخاف من التكنولوجيا واليوم يخاف من الذكاء الاصطناعي، بينما الحقيقة هي أن الإنسان هو من يتحكم في التكنولوجيا، لأنه من أنتجها، وهناك دائما في تلك الأجهزة “زر” للفتح والغلق، بمعنى أن الإنسان هو الذي يتحكم في السماح لها بالاشتغال أو تقديم ما يريد أو إغلاقها والاستغناء عنها، وهو ما يعني أننا مطالبين بأنسنة هذه المنتجات المعرفية عوض رؤيتها على أنها متوحشة.
وفي زاوية أخرى، تحمل السيدة “سليمة” جزء من المسؤولية لأولئك المربين والمثقفين والمفكرين، فيما أصبح عليه شباب اليوم من تيهان وفقدان للبوصلة، بعدما اكتسحت فيه مواقع التواصل الاجتماعي الساحة وغزت كل المواقع لأنه بإمكان أولئك الأشخاص أو المربين،المثقفين والمفكرين القيام بثورة مضادة يكتسحون عن طريقها مواقع التواصل الاجتماعي بتقديم محتوى راق (ثقافي وفكري) بطريقة ذكية تجلب الشباب وتعمل لصالحهم عن طريق جلبهم للقراءة والثقافة بأسلوب خفيف ممتع سهل… معتبرة أن 90 بالمائة من المحتوى تافه وسطحي فيما 20بالمائة أو 10بالمائة فقط، عبارة عن ثقافة ما يعني وما يؤكد أن هؤلاء الذين لهم جزء من المسؤولية، تركوا الساحة فارغة للتفاهة والطبيعة تأبى الفراغ، فلا يمكن التنحي عن الفضاء الافتراضي والتباكي عن تيهان وضياع الشباب. كما دعت المفكرة “سليمة” الدولة الجزائرية لإنشاء مؤسسات فكرية تختص في إنتاج المحتويات التكنولوجية من أجل شباب مثقف وواع.
دور المرأة المثقفة في الجزائر
ما يزال هذا المفهوم مبهما بالنسبة لـ “سليمة”، فهي تعتقد أن دورها كامرأة في مجال الثقافة مازال في مرحلة المقاومة ضد الظلام والجوع الفكري والتفاهة، لأن العدو الأول للثقافة أحيانا أو للمثقف هو الإنسان المثقف نفسه أو المحيط، في حين مرحلة الإبداع لم تطرق بعد، وإنما هناك مسايرة لمحاولة الخروج من المستنقع.
فهي تشبه نفسها بطائر “الكوليبري”، على قول الفيلسوف البشاري الذي يعيش في الخارج، موضحة أن “الكوليبري” هو طائر صغير جدا وله منقار صغير بينما له حركه سريعة جدا بجناحيه وهو يطير.
مستقبل الثقافة في الجزائر
تؤكد “سليمة عيدوني”، أن الثقافة بأهلها، ما يعني المستقبل هو وليد ما نفعله في الحاضر، لأن الفرد لا يتحكم في المستقبل بل يتحكم فيما يقوم به اليوم أو في الحاضر، وبناء الوطن يكون بالحلم المشترك. ولكن ما دام هذا الحلم غائبا لا يمكننا صنع مستقبلا، فنحن نعيش في حاضر ثقافي ومجتمعي ركيك، لهذا على كل واحد أو فرد أن يقوم بدوره في مجتمعه ومحيطه، لاسيما وأن الثقافة تمنح بدون مقابل.
كما ترى أن نجاح الثقافة يظهر يوم يتحول الشباب إلى مقبلين على النشاطات والمبادرات الثقافية، كما لابد أن تعود الروح إلى الفضاءات الثقافية أو التي تحتضن ثقافة كالفضاءات الخارجية، على غرار مسرح الشارع وكل النشاطات التي تقام في فضاء الخارجي، وذلك بتأطيرها والتكفل بإنجاحها من خلال تسهيل تنظيمها، فهي تحتاج إلى تراخيص وإلى أمن من أجل ضمان نجاحها، كما يجب فتح باب النقاش أمام الجميع باختلاف رؤاهم وتوجهاتهم، لأن الاختلاف هو الذي يخلق التناقض والتلاقح وينتهي بإبداع الأفكار والرؤى الجديدة عكس النقاش الذي يحمل نفس الرؤية، فهو يؤدي إلى التكرار وبالتالي الموت.
كيف يمكن إنعاش الثقافة ببلادنا
وعن الحلول الممكنة للنهوض بقطاع الثقافة ببلادنا، فقد أكدت المثقفة “سليمة عيدوني”، أنه يوجد تناقض كبير في طريقة ممارستنا للثقافة، ففي الوقت الذي يبحث فيه الفرد عن إشباع ثقافي يسمح له بتغيير جو العمل ونسيان ما مر به طيلة يومه أو حياته اليومية العادية سواء عمل أو دراسة، فإنه يصطدم بمؤسسات ثقافية قد أوصدت أبوابها على طريقة المؤسسات العادية، لأنها مبرمجة على نهج الإدارة، تفتتح أبوابها صباحا وتغلقها مع المساء.
بينما يفترض أن تفتتح هذه الفضاءات أبوابها، خاصة وقت تفرغ الأفراد من التزاماتهم اليومية، أي أنها تقوم بتمديد ساعات نشاطها إلى وقت متأخر من الليل، وتفتح أبوابها خلال العطل والمناسبات لأنها فترات تسمح للفرد بالتنقل إليها والاستفادة مما تقدمه، سواء كانت مكتبات أو دور سينما أو مؤسسات ثقافية عامة.
واختتمت المثقفة “سليمة عيدوني” حديثها لجريدة “البديل” بالتأكيد على ضرورة إحاطة الفرد بالكتب، السينما، المسرح والفضاء الثقافي عموما، حتى يبقى حيا فكريا لمواجهه صعوبات الحياه بكل ذكاء.
أعدته: ميمي قلان